* تحقيق: ماجد الزعاقي
تعيش أمتنا الإسلامية في هذه الأيام موسماً من مواسم الخير العظيمة التي أنعم الله بها على هذه الأمة فقد أنزل الله في القرآن واختصه بليلة القدر وتصفد فيه الشياطين، وحول التفريط في هذا الفضل أجرينا هذا التحقيق.
ففي البداية تحدث فضيلة رئيس هيئة جدة الشيخ علي الحيان عن مظاهر سلبية تكثر في شهر رمضان مبتدئاً بالإسراف والتبذير، فإن الملاحظ عند بعض الناس بأنه يأخذ كميات كبيرة ومضاعفة من الطعام والشراب زائدة عن حاجة المنزل والأهل فيخشى على من هذا فعله أن يدخل في دائرة الوعيد والوصف الذميم الذي وصف الله به المبذرين بأنه إخوان الشياطين، وكذا يخشى علينا زوال النعم لأن زوال النعم من أسبابها التبذير، وكذلك من المظاهر يؤكد الحيان على كثرة النوم في نهار رمضان والسهر في ليلة فيما لا فائدة فيه من تسوق بدون حاجة أو متابعة الفضائيات فبعض الناس يضيعون أوقات شهر رمضان المبارك فيما لا فائدة فيه فيقضون على نهاره بكثرة النوم وعلى ليله بالسهر فيما لا فائدة فيه.
ويخشى على من هذا فعله أن تفوته بعض الصلوات المكتوبة فلا يؤديها في وقتها ولا يصليها مع جماعة المسلمين وهذا خطر عظيم، أو يقضي ليلة أو معظم ليلة في مشاهدة الفضائيات من مسلسلات وتمثيليات أو استماع الأغاني والمزمار أو غيرها من المحرمات.
ويستطرد فضيلته بقوله: وهناك فئة لا هم لهم إلا التسيب في الأسواق والطرقات بدون حاجة من بعض الشباب والشابات، ومما يندى له الجبين ما يلاحظ من جراءة بعض النساء اللاتي يخرجن من بيوتهن فاتنات مفتونات كاسيات عاريات مائلات مميلات قد جذبهن الشيطان للفتنة، فهذه حبائل الشيطان التي يصطاد بها من أراد الله فتنته من الرجال، مؤكداً بقوله: فإني أوصي نفسي وجميع المسلمين بتقوى الله تعالى واغتنام أوقات هذا الشهر المبارك بالابتعاد كل البعد عن تلك المظاهر والمخالفات الشرعية، بل إن هذا الشهر فرصة عظيمة للإقلاع عن الذنوب والتوبة النصوح التي يمحو بها ما سبق من الآثام، قال الله تعالى: {(إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) }، وفي الحديث الذي رواه ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: (آمين، آمين آمين)، فلما سئل عن آمين، قال: إن جبريل أتاني فقال من أدرك رمضان فلم يغفر له فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين.. الحديث).
أسباب هذه الظاهرة
وحول أسباب هذه الظاهرة السلبية التي تكثر في رمضان يتحدث فضيلة رئيس مركز هيئة الشقيق الشيخ محمد بن مطمي حيث ذكر منها:
أولاً: الغفلة والإعراض عن الله تعالى وما يقرب إليه من صالح الأعمال وإيثار حظوظ النفس الدنيوية على المكاسب الأخروية الباقية.
ثانياً: عدم استشعار فضل هذه الليالي المباركة، وضعف اليقين بموعود الله تعالى للعاملين فيها.
ثالثاً: قلة الفقه في الدين.
رابعاً: إغواء الشيطان للعباد وصدهم عن الطاعة وتزهيدهم فيها.
خامساً: ضعف الهمة وبرود العزيمة وعدم التطلع إلى معالي الأمور.
سادساً: توسع الناس في المظاهر الاجتماعية مما جعل الهم هو الظهور بالمظهر الحسن في الملبس والمنزل ولو على حساب ضياع العبادة.
سابعاً: تسابق الفضائيات في إشغال الجمهور بما فيه إفساد الدين والدنيا معاً.
ثامناً: الانسياق وراء سراب الحياة والخدمات والتسويف المستمر في إصلاح النفس.
خطورة التفريط في رمضان
بعد ذلك أشار فضيلة رئيس هيئة المجمعة الشيخ إبراهيم الفارس حول خطورة التفريط في هذا الشهر مشيراً في بداية حديثه لما جاء في صحيح الترغيب والترهيب عن جابر رضي الله عنه قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: «آمين، إمين، آمين» قال: أتاني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد، من أدرك أحد أبويه فمات، فدخل النار، فأبعده الله، فقل: آمين، فقلت آمين، فقال: يا محمد، ومن أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فأدخل النار، فأبعده الله، فقل: آمين، فقلت: آمين، قال: ومن ذكرت عنده فلم يُصل عليك فمات، فدخل النار، فأبعده الله فقل: آمين، فقلت: آمين» معلقاً فضيلته على ذلك بقوله: كفى بهذا الحديث الصحيح موعظة وتنبيها لمن عزم التفريط في رمضان، ولكثرة فضائل هذا الشهر المبارك وفرص مغفرة الذنوب فيه فإن الذي لا يغفر له فيه خائب خاسر، مدعو عليه بالطرد والإبعاد والحرمان، فذلك المرء الذي يتبرم من شهر رمضان ويستثقل أيامه ويستبطئ انقضاءها هل ينتظر منه الإكثار من الطاعات بكثرة قراءة القرآن والتبكير للصلوات، والإكثار من صلاة النافلة والمحافظة على قيام الليل.
وأضاف: إذا كان الذي لا يستغل رمضان بفعل الطاعات، ولم يحرك فيه الصوم ساكناً يوصف بالتفريط، فكيف بمن قضى نهاره بالنوم عن الصلوات المفروضة ليسهر في الليل على ما حرم الله بين شلل وقنوات ولهو ومسلسلات أو اجتماعات على النميمة وأكل لحوم الناس، فأي صوم هذا؟ وأي مفهوم للعبادة في رمضان هذا المفهوم؟ وأخطر من هذا وذاك إذا زاد عليه بالتفريط في حقوق الأهل والأولاد فلم يأمرهم ولم ينههم فجمع مع الحشف سوء كيل فأضاع نفسه وأضاع من يعول فحمل وزره ووزر غيره وفاقد الشيء لا يعطيه ولو أنه أمر نفسه بما يصلحها ونهاها عما يضرها وحملها على ما فيه نفعها وقام بواجبه نحو من تحت يده لكان خيراً له ولم يكن بعد ذلك في عداد المفرطين فالصائم آمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر مستشعر لخطورة التفريط في هذه الشعائر.
من حياة السلف في رمضان
الشيخ بسام اليوسف المرشد بإدارة التوعية والتوجيه بالرئاسة أكد على أن حال السلف - رحمهم الله - في رمضان عجب، وقصصهم أقرب إلى الخيال، ذلك لأننا نقيسهم على أنفسنا، وقد قيل:
لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم
ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
مشيراً إلى أن تلك القرون ذات تميز وفضيلة، فهم خيرة الله من خلقه، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق في قوله صلى الله عليه وسلم: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.. مرتين أو ثلاثاً». يدعون الله سبحانه أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه أن يتقبله منهم، كانوا يصومون أيامه، ويحفظون صيامهم عما يبطله أو ينقصه من اللغو واللهو والغيبة والنميمة والكذب، يحيون لياليه بالقيام وتلاوة القرآن، كانوا يتعاهدون فيه الفقراء والمساكين بالصدقة والإحسان وإطعام الطعام وتفطير الصوام، مشيراً إلى أن السلف كانوا يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها، كان الأسود يقرأ القرآن في كل ليلتين في رمضان، وكان النخعي يفعل ذلك من العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر ثلاث، وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر كل ليلة، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة، وعن أبي حنيفة نحوه، قال ابن رجب - رحمه الله -: وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة، كشهر رمضان، خصوصاً الليالي التي يُطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة، كمكة - شرفها الله - لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوته اغتناماً للزمان والمكان، وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره، وهو صائم، منهم عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، وداود الطائي ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل، وكان ابن عمر لا يفطر الا مع اليتامى والمساكين، وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه، فلم يفطر في تلك الليلة، وفي حديث السائب بن يزيد قال: كان القارئ يقرأ بالمئين - يعني بمئات الآيات - حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، قال: وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر.
الأسباب المعينة على استغلال رمضان
وحول الأسباب المعينة على استغلال هذا الشهر الكريم فيوضح ذلك فضيلة إمام مسجد ابن القيم الشيخ حسن الخبراني في النقاط التالية:
1- الاستعداد النفسي والبدني لاستقبال هذا الضيف الكريم وذلك من خلال استشعار عظمة هذا الشهر، والتوبة النصوح وتحسن بعض الأمور التي تهيئ النفس لاستقباله نفسياً وبدنياً من خلال صيام بعض الأيام في شهر شعبان استعداداً لاستقبال هذا الشهر حتى لا يشق على النفس الصوم، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الصوم في شهر شعبان، ولذلك حكم كثيرة خلاف هذه الفائدة.
2- استشعار أن هذه فرصة للمرابحة مع الله ولهذا كنت تجد السلف بين تال لكتاب الله ، وقائم ليله يصلي، وذاكر لله تعالى، بل كانوا يقدمون مهجهم لله تعالى في هذا الشهر الكريم.
3- التفرغ من كل الشواغل ما أمكن في هذا الشهر الكريم فقد كان السلف يوقفون دروس العلم للتفرغ للعبادة في رمضان وإن أهم ما يتفرغ منه في هذه الأيام الفاضلة ولياليها الهيام في الأسواق لشراء حاجيات العيد، فلو استطاع التخلص منها قبل رمضان أو على الأقل قبل العشر الأواخر منه ليتمكن من استغلالها على الوجه الأكمل لكان أفضل.
الاستعداد للعشر الأواخر
وفي ختام هذا الموضوع يتحدث فضيلة رئيس هيئة محافظة الخفجي بالنيابة الشيخ سعود الشمري عن الاستعداد للعشر الأواخر موضحاً أنه ينبغي الاستعداد للعشر الأواخر في رمضان ومما يعين على الاستعداد للعشر الأواخر والتزود من الطاعات في تلك الليالي والأيام أن يُعلم أن فيها الخيرات والأجور الكثيرة ففيها الفضائل المشهورة والخصائص العظيمة، موضحاً أن من خصائصها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها، وفي الصحيحين عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. وفي المسند عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم فإذا كان العشر شمر وشدّ المئزر ففي هذا الحديث ما يعين على الاستعداد التام للعشر الأواخر مما دلّ الدليل على فضيلة هذه العشر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد فيها أكثر مما يجتهد في غيرها وهذا شامل للاجتهاد في جميع أنواع العبادة من صلاة وقرآن وذكر وصدقة وغيرها. ومؤكداً كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشد مئرزه يعني يعتزل نساءه ليتفرغ للصلاة والذكر ولسانه وجوارحه لشرف هذه الليالي وطلباً لليلة القدر التي من قامها إيمانا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. وظاهر هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يحيي الليل كله في عبادة ربه من الذكر والقراءة والصلاة والاستعداد لذلك والسحور وغيرها مما يدل على فضيلة العشر من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله فيه للصلاة والذكر حرصاً على اغتنام هذه الليالي المباركة بما هي جديرة به من العبادة فإنها فرصة العمر وغنيمة لمن وفقه الله عزّ وجلّ فلا ينبغي للمؤمن أن يُفوّت هذه الفرصة الثمينة على نفسه فما هي إلا ليال معدودة ربما يدرك الإنسان فيها نفحة من نفحات المولى فتكون سعادة له في الدنيا والآخرة، وإنه لمن الحرمان العظيم والخسارة الفادحة أن ترى كثيراً من المسلمين يمضون هذه الأوقات الثمينة فيما لا ينفعهم يسهرون معظم الليالي في اللهو الباطل فإذا جاء وقت القيام ناموا عنه وفوتوا على أنفسهم خيراً كثيراً لعلهم لا يدركونه بعد عامهم هذا أبداً وهذا من تلاعب الشيطان بهم ومكره بهم وصده أياهم عن سبيل الله وإغوائهم لهم قال تعالى:{( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)} والعاقل لا يتخذ الشيطان ولياً من دون الله مع علمه بعدواته له فإن ذلك مناف للعقل والإيمان قال تعالى:{(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)}، وقال تعالى:{(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) }.
|