*رام الله نائل نخلة:
في مخيم الجلزون.. الذي يضم في حارته وأزقته الكثير من المشاهد وقصص العائلات الفلسطينية التي ضحت بالكثير من اجل هذا الوطن ولم تبخل عليه يوما بالشهداء والجرحى المعتقلين.. زرنا بيت المعتقل محمد عبد الفتاح غوانمة 42 عاماً الذي افرج عنه مؤخراً بعد اعتقال دام عشر سنوات بتهمة الانتماء للجهاد الاسلامي ومقاومة الاحتلال قضاها متنقلاً بين سجون الاحتلال ليكون بذلك قد امضى عشرين عاماً في السجن من عام 1977 الى الالفية الجديدة.
مظاهر الفرح والاحتفال فرضت نفسها على المكان والابتسامات ارتسمت جلية على وجوه افراد هذه العائلة التي حيرت الاحتلال على مدى عقود.. الأم 60عاماً والاخوة الاربعة وابرزهم محمد جميعهم ذات يوم كانوا معتقلين في سجن المسكوبية في القدس يخضعون لتحقيق عنيف ومتواصل بتهمة ايواء مطاردين وتقديم مساعدات لمقاتلين فلسطينيين.. هب شباب مخيم الجلزون كعادتهم محتفلين بخروج احد اكبر المناضلين في المخيم الذي يحظى باحترام وتقدير الجميع لسجله الطويل في المقارعة والصمود والثبات فبالرغم من عدد اعتقالاته واستدعائه للمخابرات قد تجاوز الثلاثين مرة الا انه لم يعترف بكلمة واحدة، ولكن يبدو ان الاحتلال قد شوه اموراً كثيرة وخلق حالات تجسدت فيها المعاناة الازلية والتي ستبقى شاهدا على حقد وجرائم الاحتلال ومدى بشاعته ودناءته.
«اهلاً وسهلاً بالشباب» استقبلتنا أم محمد التي لا تستطيع ان تخفي السرور والفرحة وهي تستقبلنا قبل ان ندخل الى غرفة الضيوف بمنزل العائلة الذي يقطنه ابناؤها جميعهم مع عائلاتهم واطفالهم بالرغم من الاكتظاظ الشديد وهو حال جميع بيوت مخيم الجلزون، ولم يتوقف لسانها عن الترحيب بنا والدعاء لشباب فلسطين للحماية على امل ان تصبرنا قليلا حتى يعود محمد ابنها فلذة كبدها الذي بكت الليالي الطوال قلقا وخوفا عليه من الاحتلال ولكنها قبلت قضاء الله واسلمت امرها له ليعود ابو العبد من رحلته الى البراري خارج حدود المخيم.. «اليوم فقط شعرت انني كنت اسيراً» وهو ينطق بهذه الكلمات مد يده «محمد» ليسلم علينا والعرق يتصبب من جميع جسمه وقد بدا عليه الارهاق والتعب من هذه الرحلة الى البرية باحثا عن الحرية التي فقدها عشرين عاما يريد ان يحدق بنظره الى ابعد مدى ليشاهد مباني جامعة بير زيت التي كان في احد الايام من انشط طلابها والتي شهدت ساحاتها اللقاء الاول مع الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، وفي نفس الوقت يتلذذ بعض من حبات التين الذي لم يذق طعمها طوال سجنه.
27-5-1977، كان اول اعتقال لي وكنت وقتها استعد لامتحانات التوجيهي ولكن اعتقلت وقضيت اربعة شهور في التحقيق ومعي اربعة شباب من المخيم ولم يحتمل بعضهم التحقيق فاعترفوا عليّ بقيادة مجموعة كنا اسميناها «فتيان فلسطين» لمقاومة الاحتلال وكتابة الشعارات واغلاق الشوارع والقاء الزجاجات الحارقة ولكني انكرت حينها كل هذه التهم وحكمت عليّ المحكمة العسكرية في رام الله بالسجن مدة خمس سنوات امضيتها متنقلا بين السجون ضمن تنظيم حركة فتح. هذه بداية القصة مع «أبو العبد»، ولأن وجع الوطن متجسد في هذا الرجل لم يستطع ان يقاوم شعوره واندفاعه الجامح نحو العمل الجهادي ومقاومة جنود الاحتلال من اجل فلسطين الذي احبها واحبته، وقد كانت هذه التجربة غنية بالنسبة له وكان دائما يحب القراءة والمطالعة فهو انسان مثقف واسع الاطلاع اضافة الى تجربته الواسعة في التنظيمات وكيفية عملها حيث في تلك الفترة بدأت تشهد السجون الاسرائيلية حركة منظمة من المعتقلين لترتيب امورهم وكيفية تعاملهم مع الادارة. كل هذه الاحداث والتي كان أبو العبد مطلعا عليها ساعدته في امتلاك كم كبير من المهارات القيادية والتنظيمية.
وبعد ان انهى محكوميته خرج من السجن ليواصل دراسته وينجح في التوجيهي ويلتحق في جامعة بير زيت كلية الاداب وهناك يلتقي مع الدكتور فتحي الشقاقي الذي كان من ابرز العمل الطلابي الاسلامي في تلك الفترة لتكون بداية التحول في الجهاد الاسلامي ويصبح خلال فترة وجيزة من ابرز واكثر الطلاب نشاطا وحيوية ودفاعا عن فكره وما يؤمن به، ولكن بسبب ظروف قاهرة انتقل الى كلية الدعوة واصول الدين ليدرس الشريعة الاسلامية ولكن اليهود الذين يسعون الى تجهيل الشعب الفلسطيني وقتل كل بذرة الخير فيه، اعتقلوا محمد عام 1986 بعد ان اعترف عليه احد شباب مخيم الامعري في رام الله لأنه استلم منه قطعة سلاح ولكن كطبيعته لم يعترف بالرغم من الاساليب الوحشية التي استخدمت ضده في زنازين رام الله والتي كانت تعتبر أصعب من المخابرات الإسرائيلية لقساوة المحققين والزنازين التي كانت تحت الارض بعشرات الأمتار حيث لا تصلها الشمس ولا الهواء كأنك في مقبرة جماعية، ولكن كل هذه الظروف لم تثن عزم أبوالعبد أو يلين جانبه لهذه الضغوط، فبقي صامدا ولم يتكلم بكلمة واحدة طوال فترة التحقيق، وحكم عليه لمدة سنتين وبعض هذه الفترة في سجن جنيد بمدينة نابلس لتضيف هذه التجربة الثالثة من الاعتقال خبرات كبيرة لكن هذه المرة بقسم الجهاد الإسلامي الذي انطوى تحت لوائها واصبح من اكثر الأفراد نشاطا وحيوية وتأثيراً. توسع نشاط ابو العبد خارج حدود المخيم ليشمل الضفة الغربية من شمالها الى جنوبها ينظم ويشكل المجموعات العسكرية وغيرها من سواعد الحجارة والاشبال الذين انصب اهتمامه على تربيتهم وعقد الجلسات لهم في المساجد ولا يتوانى عن تقديم الخبرة والمشورة للجميع، يحافظ على علاقات طيبة مع الجميع بغض النظر عن توجهاتهم وانتمائهم.
ويقول محمد انني لم افلت من شبح الإداري حيث امضيت سبعة عشر شهراً متواصلاً في الإداري دون محاكمة فقد كانوا يمددون لي فترة الاعتقال كل ستة شهور في آخر يوم من الافراج في محاولة منهم لتحطيم معنوياتي ولكنني والحمد لله كنت اواجه هذا القرار بمزيد من النشاط والصمود بين إخواني المعتقلين ليكون الرد الأمثل والأقوى على خطوتهم.
ويخرج محمد من السجن ليكون قد أمضى ما يقارب التسع سنوات في السجن موزعة على ثلاث مراحل اعتقالية وهنا يبرز دور والدته وإخوانه ومحاولة تهدئة البركان الثائر في أعماق محمد غضبا وثورته على المحتل، وتقول والدته: «لقد كان قلبي يتفطر حزنا على إبني محمد الذي لم يهنأ يوما واحدا في حياته كباقي الشباب، فكان يتنقل من سجن إلى آخر لم يكن يلتفت إلى نفسه أو مستقبله لقد كان همه الوحيد هو كيف سيواجه الاحتلال» وبعطف الأم وحنانها تلجأ أم محمد إلى تزويجه بإحدى قريباتها لعل وعسى يهدأ ويلتفت إلى حياته الجديدة، ولكنها لم تكد تمر أربعة شهور حتى اعتقل، هذه الأربعة شهور من زواجه زاد محمد من نشاطه فلم يكن يجلس في البيت ولا يعود إليه إلا متخفياً لأنه كان يعلم أن رجال المخابرات يراقبونه ويريدون اعتقاله وكانت هناك شكوك حول نشاطه في العمل العسكري، وخاصة بعد الاعترافات عليه من شباب اعتقلوا من قبله كانوا من اكثر المقربين إليه.
ويروي أحمد الاخ الاصغر لمحمد حادثة الاعتقال الأخيرة حيث انه يملك كراجاً لتصليح السيارات بجانب المنزل ويقول: «بعد أن أنهيت عملي في الساعة الرابعة عصراً جلست كعادتي أما باب منزلنا وفي أثناء ذلك وقفت سيارة من نوع فرد ترنزيت تحمل لوحة عربية وفي داخلها فتاة والسائق يلبس زي الميكانيكي، فاعتقدت أنه من المنطقة ولم أعرهم اهتماما وخلال ثوان فتحت جميع ابواب السيارة ونزل منها الجنود الذين يلبسون الزي العربي وطوقوا المنزل ليتقدم مني السائق والفتاة لأكتشف أنهما ضابطا مخابرات وهما المسؤولان عن المخيم وطلبا مني الجلوس على الأرض ليخرج الجنود ومعهم اخي محمد الذي كان وقتها في البيت، ويقول أبو العبد: شعرت في تلك اللحظات بتحركات غريبة فقمت بالتوجه الى الباب الخلفي من المنزل لأهرب، ولكن المنطقة جميعها مغلقة ولم استطع الإفلات منهم ولتبدأ من هنا رحلة العذاب الأخيرة في هذا السجل الاعتقالي الطويل، فقاموا بإدخالي إلى إحدى غرف البيت وبدأوا يحققون معي عن سلاح وقنابل ومتفجرات ولأكثر من ست ساعات استمر التفتيش في البيت الذي لم يتركوا فيه أي شيء سليما، بل قاموا بتدمير محتوياته من الأثاث وأدوات المطبخ والطحين والزيت والكاز، الذي خلطوه مع بعضه البعض، وفي هذه الساعات حولوا إلبيت إلى أطلال من الخراب والدمار، لينقل محمد إلى مسلخ رام الله ليبدأ فصل جديد من معاناته وألمه، في التحقيق الذي تواصل لمدة 6 شهور دون انقطاع، اعترف عليه أكثر من 40 شخصا، سواء من المخيم او خارجه، وبعد أشهر لم يستطع الاحتلال اثبات جزء كبير من التهم سوى تهمة واحدة وهي المفوض السياسي العام للجهاد الاسلامي في رام الله وعليه حكمته إسرائيل عشر سنوات جديدة من الاعتقال والألم والمعاناة والمرض والعزل.
المأساة التي تفاجأنا بها عند لقاء محمد أبو العبد هي انه وبالرغم من كونه من ابرز وأذكى طلاب مدرسته في المخيم ونجاحه في الجامعة التي كان من أكثر الشباب نشاطا وحيوية وعقلية وعلم وثقافة هو اليوم بحاجة إلى ان يعرض على طبيب نفسي!!!! نعم وبكل ألم ينطقها إخوانه وبكل مرارة والدموع تقطر من عيونهم فذاكرته ضعيفة وعندما يتحدث تجده يخرج من موضوع ويدخل في آخر، تجده كثير الحركة يتحدث بصوت خافت وغير مسموع، يعبر عن شدة المعاناة والألم وقساوة ما واجهه في حياته الاعتقالية من إدارة السجون حتى أنه طلب في آخر أيام اعتقاله وتقدم بطلب من إدارة سجن نفحة إلى أن يعزل في غرفة انفرادية بعيدا عن الناس لا يريد أن يرى أحدا أو يتكلم مع أحد ليوضع في زنازين العزل في بئر السبع لمدة أربع سنوات وستة عشر شهرا آخر من العزل قضاها في شطة ليخرج من هناك مباشرة إلى الحرية التي لم يفهم معناها.
يقول أحمد أخوه الذي ذهب لاستقباله عند حاجز جنين لم يستطع أن يتعرف على أحد في بادئ الأمر لقد كان قادما لتوه من زنازين الموت التي رفضت إدارة السجون اخراجه منها بالرغم من المطالبات العديدة من الأهل والمنظمات الحقوقية والدولية، انه أمر كان فوق طاقته واكبر من أن يستوعبه إنها الحرية.
لقد وهبت له الحياة مجدداً، ماذا تعقدون منه ان يكون؟ عشرون سنة في الاعتقال وعمره 42 عاماً ولديه ابن واحد فقط لم يتجاوز عمره عشر سنوات. الاكثر كارثية من ذلك هو منع المخابرات الاسرائيلية أحدا من عائلته واخوانه الستة أو أعمامه وجيرانه وأصحابه من زيارة أبو العبد لمدة عشر سنوات متتالية وهي فترة اعتقاله الأخيرة فقط عام 1998 زارته أخته لمدة خمسة شهور ومن ثم أعيد المنع عليه مجدداً.. أي نازية هذه؟.. أي احتلال هذا؟.. أي تدمير للذات والانسان والروح والحياة معاً؟.. محمد جلس صامتاً وهو يستمع ويصغي بإمعان إلى كل ما يقال في هذه الجلسة، حركته تزداد شيئاً فشيئاً عندما سمع عن الزيارة والزنزانة والسجن والحرية.محمد ما زال متمتعاً بطعم حبات التين التي أكلها في جولته الأولى منذ 36 يوما بأكملها لم يستطع ان يتجول بحرية بعيداً عن الكلبشات في المعصم والأرجل، محمد يريد الذهاب الى كل الدنيا الى رام الله وبيرزيت والمسجد الأقصى وعبوين، ولن ينسى ان يعرج الى الممر الآمن بين ترقومياً وغزة، سيتجول طويلاً في أزقة المخيم الذي كرمه خير تكريم واستقبله أكبر استقبال فأقاموا له الاحتفالات والولائم ابتهاجاً بعودته إلى مخيم اللجوء والمعاناة وهو ابن قرية الدوايمة التي هاجروا منها عام 1948، كان آخر سؤال وجهناه له عن شعوره في اليوم الذي بدا عليه التحسن رويداً رويداً عما كان عليه لحظة الإفراج عنه، سألته عن الحرية فقال وهو يضحك، إنه شعور بالحياة مجدداً، إنني كنت هناك ميتاً، أما اليوم فإنني أشعر أنني ولدت مجدداً، لقد أخذوا مني الكثير الكثير فهل سيعود لي شيء مما أخذوه؟
|