(1)
** حَدَّثونا - حينما كنا صغاراً- عن «شباب» من أهل مدينتنا.. ابتعثوا - بعد الثانوية العامة - للدراسة في الولايات المتحدة.. فرغب بعضهم عن أهله ولم يعد.. ورجع آخرون في إجازاتهم لينعوا على «بني أبيهم» أن لا زالوا في «سنوات الجهل»..!
** غيّر من غيّر «ولاءاته».. وبدّل اقتناعاته.. وأصبح مغترباً في «داخله».. و«خارجه».. فتجاوز «الفرضَ» و«الواجب».. واستباح «الممنوع» و«المعيب».. وبدا شكلُه مختلفاً.. وممارساتُه غريبة..!
(2)
** انتقل أولئك من بيئة «محافظة» تنام عند غروب الشمس.. وتستيقظ مع مطلع الفجر.. يتفقدون بعضهم في السوق.. والمسجد.. والحارة.. و يمدُّون «أرجلهم» مع «أحاديثهم» في جلسات «المشراق».. و«القايلة».. على «العَتَب».. وتحت «القبب».. وعند نواصي الطرق..!
** يعرفون «الجار».. كما «المارّ».. «بأبيه» و«جَدّه».. و«خؤولته» و«عمومته».. فلا «أسرار» ولا «أسوار».. حدودُهم «كدٌّ» من أجل الحياة.. و«عدٌّ» لما بعد الموت.. وسهرات «بسيطة» في دورّيات ليليّة.. ونزهات «أسبوعيّة».. يُطربهم «الحوطي».. ويتمايلون مع «السامريّ».. ويلعبون «البلوت» و«أم تسع».. ويتحاورون في «شؤون» و«شجون» «اليوم».. و«القوم».. وينصرفون عند منتصف الليل أو قبله أو بعده.. فيوقظهم داعي الخير.. معلناً أذان «الفجر».. ليستأنفوا مشوار «العمر»..!
(3)
** من هذه البيئة الوادعة.. الهانئة ..البعيدة عن التعقيد «المظهري» أو «الجوهري» خرجت تلك «الثُلّةْ» إلى حيث الليل لا يُنام.. والإنسان لا يُلام.. وكل شيء مباح ومتاح.. فلا «عيب» ولا «عُرف» ولا «محاسبة» إلا ما مَسَّ «حقوق» الآخرين أو «ممتلكاتهم»..
** واجهوا.. أو واجهتهم «الصّدمة الثقافية» (Culture Shock) ..فاصلةً بين «بيئتين».. و«مجتمعين».. و«تفكيرين».. فأثّرت في نفرٍ منهم.. قرأوا «التخلُّف» في «بني قومهم».. وأسفوا لعمر ضاع داخل دوائر «مغلقةٍ».. أعشاها غُبار «الفقر» و«الفكر».. يأسنُ به «البدن».. ويتحجر معه «الذهن»..!
** توالت «البعثات».. وتكررت «الصدمات».. فقد كان الفارق «المدنيُّ» هائلاً لم يستطع بعضهم التواؤم مع «معطياتِه» إلى حين..! ثم خلف من بعدهم خلفٌ استطاعوا تجسير «الفجوة».. فقد وعوا تجربة من سبقهم.. أو تبدلت ظروف ارتحالهم.. وهنا تبتدئ الحكاية..
(4)
** لم يحملْ «جواز سفر».. فلم يتجاوز «الدمام» شرقاً.. و«جدَّة» غرباً.. و«حائل» شمالاً.. و«الخرج» جنوباً.. فكان ابتعاثه إلى أقصى «الغرب الأميركي» رحلته «الخارجية» الأولى قبل «ثلاثة وعشرين عاماً».. فاجأه فيها.. وهو المنغرسةُ «جذورُه» في صحراء «الجزيرة».. أنه لم يُفاجأْ بشيء..!
** ربما كان لتوقعاتِه «المبالغة».. واستعداداتِه «القرائية» دور في ألا يرى في «ناطحات السحاب» أكثر مما رآه في «عمارة الباخرة» بشارع الخزان.. أو عمارة «المملكة» بشارع «قابل».. وظلَّ «ستين الملز» في ذهنه.. دون كل الطرق السريعة.. والجسور المعلقة.. والأنفاق العريضة.. ولم تحجب «ماكدونالد» و«جاك إن ذا بكس» و«الكيمارت» و«السيفواي» «مطاعم الحلة»، وبوفيهات «شارع العَصَّارات»، والبقالات «المحدودة» «المعدودة» التي لا يُعرف فيها تاريخ صلاحيّة.. أو تنوع أصناف..!
(5)
** سافر إلى هناك.. وكانت مشكلة «الرهائن» في السفارة الأميركية «بطهران» في أوجِّها.. وشهد ملامح من غضب «مستترٍ» يطفو على «السطح» أحياناً.. ويعمُّ «الجميع».. فلم يكونوا يفرقون بين «العربي» و«الفارسي».. ولن ينسى في أول أيامِه «بسان دييغو» أنه كاد أن يذهب «رهينةً» لأميركي «متطرّفٍ» في «وطنيَّته».. أو ربما «مزاجه».. شاء أن يُقايض به دون أن يدري أنه المقصود.. فلم يكن يعرف من «الإنجليزية» ما يكفي لفهم جملة (خُذْه رهينة Take him a hostage) التي مَرَّت على «مسمعِه» فلم يأبه..! فقد قالها مَنْ «لا يعقل» لمن لا «يفهم».. وهكذا نَعِم (أخو الجهالة) فأضافه «عدم علمه» إلى زمرة «الأشقياء» كما شاء «أبو الطيِّب» دون أن يشاء..!
(6)
** لم يجد ملامح «العداء» بعد ذلك طوال «إقامته».. بل رأى في الشعب الأميركي ما ظلَّ مقتنعاً به إلى يومه من أنهم «طيِّبون»/ «منفتحون».. لا يتكئون على «إرثٍ» «سوداويّ».. وهو ما يضادُّ الصورة التي تبدو بها «حكوماتُهم» و«إعلامهم».. ولعلَّ هذا هو ذاته ما نراهُ في شعوب أخرى قد نكون من بينها.. فمن يقترب يألف ويُؤلف.. ومن ينأ بجانبه يعشْ وحيداً..!
** عرف خلال دراستِه هناك بعض الأميركيين الذين دعوه إلى «بيوتهم».. وطلبوا منه مرافقتهم إلى «مناسباتهم».. سألوه.. وسألهم.. وحاوروه.. وحاورهم.. ومضى معهم إلى أماكنهم.. وزاروه في مكانه.. وقرأ - بطلبهم- شيئاً من القرآن الكريم.. وتعرَّفوا معه على «مسجدهم» الصغير.. و«جامعهم» الذي كان -حينها- صالة مستأجرة من إحدى الكنائس.. وظلَّت روح «الودِّ» عامرة.. ولم يشق «باغترابه».. ولم يشقوا «باقترابهم»..!
** لن يزعم أنه قدّم صورةً جيِّدةً لدينهِ وأهلهِ.. غير أنه رأى في كثير منهم استعداداً لتفهُّم قضايا أمَّته.. فليس كُلّ الأميركيين في عقليّة (لاري كنغ) و(توماس فردمان)، أو «الكاوبوي» المتسلِّط على كراسي الرئاسة..!
** هكذا وعى «التسامح».. رغم الأجواء «المكفهرةِ» بسبب قضيَّة الرهائن.. وعاش «المغتربون» مثله.. في سلام ووئام..!
(7)
** استطاع «جيلُ الوسط» (المبتعث في الثمانينيَّات الميلادية) التواؤم مع «الآخر» دون أن يفقد «ذاته».. أو يخسر «علاقاته».. فحافظ على «هُويَّته».. وبنى جسوراً من «التفاهم».. وكان «حاسماً» في «رفض» السياسة «الأميركية» التي ناوءتْ أمته.. والثقافة «الاستشراقية» المتحيِّزة التي قادتها «الإرساليات».. وجمعيات التبشير.. وضلالات الفكر «المتعصب».. من لدن «جورج بوش (الجدّ)» صاحب كتاب (حياة محمد) الصادر عام 1844م بكلِّ ما امتلأ به من «حقد» و«تطرُّفٍ» أورثه «لأحفاده».. وامتداداً بمن سبقه ومن لحقه.. حتى (وليام بويكين) الجنرال «الأهوج» الذي عدّ «إرهابهم» معركة روحَيّة مع «الشيطان»..!
** (.. بالمناسبة كتاب (جد آل بوش) ترجم إلى العربية وسوف يصدر قريباً بجهود «استثنائية» من الأستاذين الكبيرين.. عبد الله الماجد وعبد الله الناصر).
** ليسوا كُلّهم مثل أولاءِ.. كما ليسوا كلُّهم معتدلين.. لكننا كذلك أيضاً.. فهل نُحلِّلُ لأنفسنا ما نحرمُه على غيرنا.. ففينا وفيهم «متعصِّبون».. ولكنهم يضيفون «قوَّتهم».. ونضُيفُ «ضعفنا» فنبدو «مستلبين».. ويبدون «سالبين»..!
(8)
** لا شك أن «الثورة الإيرانيّة».. و«حادثة الحرم» كوَّنتا تحولاً «انقلابيّاً» في المواقف «الفكرية» والسلوك «الاجتماعي».. وأحسّ الجميع بمنطقٍ مختلف يحكمُ «حياة» الناس.. و«علاقاتهم».. ودرجة «تسامحهم» و«تفهمهم»..!
** كان الجميع يُحسّ بالأمان.. ولو خالف أو اختلف.. يطرحُ رأيه غير «وجلٍ» من «حسيب» أو «رقيب».. ويَردُّ.. ويُردُّ عليه دون «استعداءٍ» أو «استعلاء».. ثم أضحت «التهمُ» جاهزةً فسمعنا عن مصطلحات «تصفُ» أو «تصِمُ» لمجردِ «تعارضٍ» مع التوجه العام «الطارئ» في «الثمانينيَّات الميلادية»..!
** عاد جيل الوسط من بعثته فوجد الجوّ غير الجو.. والناس غير الناس.. وما كان «سهلاً» أمسى «صعباً».. وما كان «خلافيّاً» صار «إجباريّاً».. وحلّ «الهمسُ» محل «الجهر».. و«المداراة» مكان «المكاشفة».. وساد سوءُ الظنّ «بالأقارب» و«الأباعد».. وعانى «الصالحون» كما «الطالحون»..!.. ولهذا حكايات.. قد تأتي..!
* التحوّل بداية..!
|