Tuesday 28th october,2003 11352العدد الثلاثاء 2 ,رمضان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دفق قلم دفق قلم
أعطني حظي من شُوَاية الرَّضْف
د. عبدالرحمن صالح العشماوي

ما كل من حدَّثك بحديث يبدي فيه حرصا على مصلحتك يكون صادقا، فلربما كان خادعا، أو مجتهدا مخطئا، وهنا يأتي دورك في التأنِّي والتعقُّل وعدم الانخداع بالبريق الذي يخبو، ويتركك بعد أن يخبو في ظلام دامس لا ترى معه الطريق.
يروي الميداني قصة تقول: كان هنالك امرأة غريرة، أي قليلة الحظ من حسن التفكير والذكاء، وكان لها زوج يكرمها غاية الاكرام، ويبذل لها كل ما يسعدها من مطعم ومشرب، وكانت قد أوتيت حظاً من الجمال، فحسدتها بعض النساء على ذلك، فابتدرت اليها امرأة متظاهرة بحبِّها ونصيحتها، وانما أرادت ان تشينه، فسألتها عن صنيع زوجها فأخبرتها المرأة بإحسانه إليها في المطعم والمشرب وغيرهما، مع شيء من التقصير قد يحصل منه، فلما سمعت المرأة منها ذلك قالت: ويحك وما إحسانه إليك، وقد منعك حظَّك من «شواية الرَّضْف» قالت المرأة: وما شُوايةُ الرَّضْف؟ قالت: هي من أطيب الطعام، وقد استأثر بها عليك فاطلبيها منه، فإنه مقصِّر معك كل التقصير فأحبت المرأة قولها لغرارتها وقلة معرفتها، وظنت أنها قد نصحت لها، وأن زوجها قد حرمها وقصَّر معها، وهان عندها كل ما قدَّمه لها من احسان، فتغيرت على زوجها، فلما أتاها وجدها على غير ما كان يعهدها، فسألها ما بالها، قالت: تزعم أني عليك كريمة، وعندك غالية، وأن لي عندك مزية، وأنت تخادعني، فكيف اثق بك وقد حرمتني شُوَاية الرَّضْف؟ إن كنت صادقا في حبك لي، فبلَّغني حظي منها، فلما سمعها علم انها قد خدعت، فقال لها متظاهرا بحرصه على تلبية طلبها: نعم وكرامة، انا فاعل الليلة ما تريدين إذا راح الرعاء بأغنامهم ومواشيهم، فلما راح الرعاة وفرغوا من شغلهم «وَرضَفوا غَبُوقَهم»، دعا زوجته، وأخذ رَضْفة منها ووضعها في كفها، وقد كانت قالت لها المرأة التي حسدتها وخدعتها: إذا أعطاك الرَّضْفة فانك ستجدين لها حرارة في بطن كفك فلا تطرحيها في الأرض فتفسد ولكن قلبيها بين كفيك، وضعيها على لسانك، فأخذت المرأة تقلِّب الرَّضْفة في كفيها فأحرقتها ورفعتها الى لسانها فاحترق، فانتفخت يداها واحترق لسانُها، وخاب مطلبها، فاتضحت لها الخديعة وقالت: قد كان عيِّي وشيِّي يصريني عن شرٍ وأنا لا أعلم، ومعنى «الرَّضْف» الحجر الصغير الحار وهي عادة عند العرب ما تزال موجودة الى الآن في البادية حيث يضعون الحجارة المحماة بالنار في اللبن، والدهن ليزداد طعمه حذاقة، ومعنى عيي وشيي اي: سكوتي وعدم درايتي بالامور، يصريني: أي يقطعني ويمنعني، فمعنى العبارة كاملة هو: لقد كان سكوتي وعدم درايتي يقطع عني الشر.
يضرب هذا المثل لكل عاثرٍ مخدوع يتكلف ما قد كفي أمره، وتطلَّع بهوى نفسه، او بعدم درايته ومعرفته الى ما لاحظَّ له فيه.
وإن في تجارب الأمم والناس عبْر العصور المختلفة ما يغني صاحب العقل والرأي والنفس المطمئنة، فلو ان تلك المرأة تذكرت لحظة خداع حاسدتها لها ماهي فيه من نعيم، وقاست حالها بحال غيرها من النساء اللاتي لم يصلن الى ما وصلت اليه، لما استسلمت لتلك النصيحة المغلفة بابتسامة كاذبة تخفي وراءها سوءا وشرا، وما أدركت المسكينة هذا المعنى الا بعد ان احترقت يداها، ولذعت النار طرف لسانها، فعبَّرت عن ندمها على ما بدر منها، ولكنه كان ندما بعد ضرر، وأسفا بعد سوء أصابها.
ان هذه الحكم والامثال تخاطب شِغَاف القلوب، ومكامن الوعي في العقول، ومواطن البصيرة في النفوس، فكم من إنسان، او مجتمع، او شعب، او امة، يعيشون عيشة طيبة مع شيء من النقص والتقصير، تطلعوا إلى شواية الرَّضْف» ورفعوا أصواتهم يطالبون بها ظانين انها هي النعيم الذي لم يصلوا اليه، ولم يصل اليهم، ونسوا في غمرة انفعالهم اللقمة الطيبة التي في ايديهم، وراحة البال، ونعمة الامن التي يحسدهم عليها الحاسدون، فلما تكشفت لهم الحقائق، تبين لهم ان «شواية الرَّضْف» التي ظلوا يسعون اليها، ويضحَّون بوقتهم وجهدهم وتكاتفهم وتعاونهم من أجلها، انما هي حجارة محمية بالنار تحرق يد حاملها، ورجل واطئها، ولسان متذوقها، فندموا أشد الندامة، وتحسَّروا أشد الحسرة، ولكن بعد فوات الأوان.
إشارة:
حكمة الله أن يظل رفيع النفس وخزاً في قلب كل حسود.

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved