فيما يلي نص خطاب معالي وزير البترول والثروة المعدنية المهندس علي النعيمي الذي القاه في حفل التكريم الذي اقامته وزارة البترول بمناسبة انتهاء عمل الاستاذ سليمان جاسر الحربش في وزارة البترول بعد 41 سنة من الخدمة فيها وانتقاله الى فيينا مديراً عاماً لصندوق الاوبك للتنمية الدولية
لقد احترت كيف أبدأ خطابي عن صديقنا وزميلنا أبو زهير، فهو صاحب حضور قوي من أي جانب أردت فيه الحديث عنه، سواء أكان هذا الجانب عمليا أم شخصيا «أم متعلقاً بلعبة البلوت التي يتفنن فيها كلاعب ماهر ولكن قل من يفوز على أبي هيثم».
فمن أراد منا أن ينظر إلى رجل «محبوب» أمضى عمره في خدمة بلده، فلينظر إلى زميلنا الذي نكرّمه هذه الليلة: سليمان الجاسر الحربش. فهذا الرجل اتفق مفاوضوه ونظراؤه وزملاؤه وأصدقاؤه على انه يدخل إلى القلب بسرعة. أما دخوله إلى العقل حين يناقش أو يحاور أو «يلذع» فأسرع من ذلك. لقد عرفته، شخصياً، رجلاً مجرباً، سريع البديهة، يتمتع بأسلوب متميز في الحديث والكتابة باللغتين، يشد إليه الأنظار، ويستحوذ على قناعات من يعمل معه.
حين جئت للوزارة، كان أبو زهير، الذي بدأ في مكتبتها موظفاً صغيراً، قد أمضى ما يزيد على ثلاثين سنة في خدمة أهدافها وأهداف المملكة من صناعتها البترولية، ووجدته مسؤولاً ومواطناً مخلصاً، يسعى بكل ما أوتي من مواهب ليسخرها لخدمة هذه الأهداف. لا يتوانى عن بذل الجهد الجهيد ليقوم بما يوكل إليه من أعمال ومهمات وبمستوى يفوق التوقعات. ومع الوقت عرفت ان سليمان الحربش، القادم إلى عاصمة القرار مبكراً من مدينة الرس الشهيرة في القصيم، تعلم التفاني في بواكير حياته، فقد تعلم وثقف نفسه بنفسه، مثله مثل كل الرجال العصاميين، الذين يرتفعون بقدر علمهم وعملهم ليحظوا بالتقدير من قياداتهم ومجتمعاتهم.
والآن.. أمضى أبو زهير ما يربو على أربعين سنة في خدمة وظائفه ومناصبه الحكومية المختلفة والمتعددة. وان كان يحتفظ بمذكرات يومية أو كَتَبَ سيرته الذاتية طوال هذه السنوات، فإننا سنقرأ فيها الكثير من المنجزات والمواقف والمفارقات التي كان سليمان من صانعيها أو شهودها. فلم تبق مدينة ترتبط بصناعة البترول بعلاقة قربى أو نسب إلا واستضافته، كخبير مهم، يحمل رؤية المملكة البترولية ويبلور مع زملائه توجهاتها وأهدافها. ولو ان صديقنا العزيز عدّد الأميال التي قطعها مسافراً إلى عواصم الحوار والقرار، لربما بلغت هذه الأميال أضعاف المسافة ما بين الأرض والقمر، ولأصبح سليمان بذلك رائد فضاء بترولي لا يجاريه في هذه الريادة أحد.
فمن أقصى الكرة الأرضية في الغرب إلى أقصاها في الشرق، ومن صقيع الشمال إلى سموم الجنوب، كان دائماً يحمل حقيبته ويرحل ممثلاً للمملكة أو منتدباً، بالنيابة عن وزارة البترول، ليحاور ويفاوض ويقرر كل ما فيه مصلحة بلادنا ونفعها وخيرها.
كان سليمان الحربش على الصعيد المحلي موظفاً ومسؤولاً مهماً في الصناعة البترولية، حتى انه يعد من الآباء المؤسسين لكثير من منعطفات هذه الصناعة ومنجزاتها. فبعد عودته من القاهرة، حيث ابتعث للحصول على شهادة البكالوريوس، نشط من خلال الإدارة الاقتصادية في الوزارة في تنفيذ عدد من الأعمال والدراسات والتقارير ذات العلاقة بصناعة البترول في المملكة وما يؤثر عليها. وفي الفترة من عام 1980 إلى عام 1989 أصبح عضواً في لجنة الدراسة في أرامكو «المسماة The study group»، وقد كانت مهمة هذه اللجنة المؤلفة من الحكومة والشركات الأربع التي كانت تشترك في ملكية أرامكو تقييم خطط الشركة وبرامجها وطاقتها الإنتاجية وعمالتها ومصروفاتها التشغيلية قبل عرضها على مجلس الإدارة. ولا بد أن أبا زهير يحتفظ بالكثير من الذكريات العملية والشخصية عن هذه الفترة «الأرامكوية».
ومن الحضور المحلي إلى الحضور الدولي. فعبر هذه السنين، وقبل أن يسمى محافظ المملكة العربية السعودية في منظمة أوبك، وهو المنصب الذي أمضى فيه إلى الآن حوالي 12 سنة، حمل حقيبته إلى المؤتمرات الدولية. ومن المفارقات انه أرسل في أول مهمة دولية كمتدرب إلى مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «أونكتاد» في الهند، ليجد نفسه، بعد ان تأخر زملاؤه لمدة أسبوع، رئيساً لوفد المملكة إلى هذا المؤتمر، ليقع في كثير من المطبات التي يرويها بكثير من الضحك والتندر.
حمل أبو زهير حقيبته أيضا، إلى مؤتمرات أوبك منذ عام 1974 وإلى الآن، ومؤتمرات الشمال والجنوب في باريس خلال الأعوام 1975 و1977، ومؤتمرات الحوار العربي الأوروبي خلال الأعوام 1974 و1977. وفي سبتمبر من العام 1975 انتدبته وزارة البترول ليمثلها ضمن وفد المملكة للدورة الخاصة التي عقدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عن التنمية الاقتصادية. وقبل ذلك، في فبراير من العام 1975 حطت حقيبته في داكار، عاصمة السنغال، منتدباً من وزارة البترول لمؤتمر المواد الأولية. واستضافته جامعة أكسفورد في بريطانيا في العامين 1979 و1991 ممثلاً لوزارة البترول في ندوتها، وهي الندوة التي تضم ممثلين من كبار الموظفين في الحكومات المنتجة والمستهلكة والشركات الكبرى.
هل تريدون المزيد من أخبار حقيبة سليمان الحربش؟ إذن سيروا معي. ففي صيف 1989 مثل المملكة في اجتماعات لجنة استراتيجية منظمة أوبك للمدى البعيد، والتي هدفت إلى تكوين رأي موحد من القضايا المستقبلية عن العرض والطلب على الزيت وحصة المنظمة في السوق. ومنذ العام 1979 زارت هذه الحقيبة أبو ظبي والدوحة والجزائر وبغداد والقاهرة، مرافقة لصاحبها المشارك في وفد المملكة لمؤتمرات الطاقة العربية.
وفي أكثر من محطة إقليمية ودولية هبط زميلنا مع حقيبته خلال الفترة من عام 1986 إلى العام 1989، في عدد من الملتقيات ضمن إطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية، كرئيس لفريق الطاقة المعني بالتفاوض مع دول السوق الأوروبية المشتركة والولايات المتحدة واليابان، وكعضو في لجنة الاستراتيجية البترولية لدول المجلس ومهمتها رسم استراتيجية بترولية مشتركة لدول المجلس تشمل الإنتاج والأسعار والدخل والتعاون في المشروعات المشتركة.
أما عضويته في اللجان ومجالس الإدارات فحدّث عنها ولا حرج، فقد أسهم في بناء الكثير من قواعد الانطلاق لعدد من الشركات. كما أسهم، ممثلاً لوزارة البترول، في الكثير من القرارات والخطوات التي وضعت الكثير من هذه الشركات والمؤسسات على طريق الإنتاج والفعل الوطني المرموق. وما يجدر ذكره قبل ان أنهي هذه الكلمة ان سليمان الحربش يتقلد حالياً رئاسة مجلس إدارة ثلاث شركات، هي شركة الحفر العربية، التي حازت على جائزة السعودة، بعد ان عمل جاهداً على إدخال الخبرة والعنصر السعودي المؤهل في أعمالها ونجح في ذلك. والشركة الثانية هي شركة تكساكو العربية السعودية، والشركة الثالثة هي الشركة الوطنية السعودية للنقل البحري، التي تولّى رئاسة مجلس إدارتها منذ مطلع العام 2002م.
أيها الاخوة الزملاء،
ان ما يميز أبو زهير، هو ما يميز الرجل الناجح والقيادي في أي مكان أو زمان.. انها المقدرة على تحمّل مختلف المسؤوليات والتعامل معها في آن واحد وبكفاءة عالية، وهذا ما يسميه علماء الإدارة the ability to juggle many balls at the same time المقدرة على اللعب بكرات عدة في وقت واحد.
ولعل ما يميز أبو زهير كذلك، هو جمعه لعدة صفات بارزة في آن واحد، ولعل من أهمها العمق العلمي، ودماثة الخلق، والمقدرة الإدارية، وبعد النظر.
فهو رجل ذو معرفة واطلاع واسع ليس فقط في الشأن البترولي والاقتصادي، بل في الشؤون السياسية والثقافية والأدبية وغيرها.
ولأبي زهير مقدرة لغوية واهتمام واضح بهذا الجانب «العربية والإنجليزية» من نواحي مفرداتها وقواعدها وأسلوبها وفنونها.
ولدى أبي زهير ذاكرة قوية، فهو يستطيع تذكر أدق تفاصيل قصة حدثت منذ عشرين أو ثلاثين عاماً، وهي تفاصيل تشمل على سبيل المثال اسم الفندق الذي سكنه آنذاك، ورقم الغرفة، والشخص الذي قابله، بل ونوعية وجبة الأكل التي تناولها.
الحاسة المتميزة، وهي ما نسميه الحاسة السادسة، فلدى أبي زهير مقدرة متميزة في معرفة الأشخاص من اللقاء الأول، وتوقع تصرفاتهم، وكذلك توقع مواقف وتصرفات الدول والمؤسسات التي نتعامل معها.
روح المرح وحب النكتة، فمجلس أبي زهير لا يمل، فهناك المداعبة الطريفة وهنا التعليق اللاذع المقبول، وإن كان قوياً في بعض الأحيان، وأكثر من ذلك مقدرته على تذكر ورواية النكت المناسبة والجميلة، والتي أعتقد ان هناك القليل مَن يستطيع مجاراته في هذا.
وماذا بعد يا أبا زهير؟
الحقيقة أنني أعجز أنا وجميع زملائك في الوزارة ان نحيط بسيرتك الذاتية وان نفيك حقك. وما من شك أننا سنفتقدك إنساناً محبوباً ومسؤولاً مواظباً على أعمالك ومهماتك. سنفتقد إطلالتك على مكاتبنا كل صباح تناقش وتنتقد وتقترح الحلول المناسبة. وسنفتقدك باعتبارك واحداً من حكماء صناعة البترول في عهدها الزاهر في مملكتنا الحبيبة، لكننا سنجدك هناك في مهمة كبيرة أخرى، حيث سيحظى صندوق أوبك، بعد ان حظيت أنت بثقة العالم، بمواهبك وخبرتك وحكمتك.
سنكون معك وأنت تجوب بلاد الفقراء، تحمل رسالة صندوق أوبك إليهم، وكلنا ثقة بانك ستنجح وتشرّف بلادك كما شرفتها في كل محفل.
دعواتنا الحارة لك بالتوفيق وأنت ترحل إلى فيينا مصحوباً بالسلامة وبالآمال العريضة التي تضعها على عاتقك بلدان العالم الأشد فقراً.
شكراً لإصغائكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
|