الليلة الأولى:
أخيراً أدركت بأني عروس في ليلة زفافها، ما قبل العرس كان ارهاصاً لما هو آت، فكل ما حولي يدور في دوامة واسعة من الخوف والحيرة، كنت اشبه ما يكون بريشة ترتعش في مواجهة ريح عاتية.. ما أراه في اللحظة الآنية هو انه كان يجلس أمامي يرشقني بنظراته، كتلة اسطوانية مليئة بالشحم المتراكم ولحية شائبة غير متناسقة، شيخ كبير على تخوم السبعين عام، وانا لازلت احبو نحو السابعة عشرة، اي احساس مرير انتابني بغتة، شعور من اخذ على حين غرة، او من تلقى طعنة غادرة في ظهره.
الليلة الرابعة بعد عام:
الآن استطيع ان اقول بأنني اصبحت عمراً شارف على الانتهاء.. شمعة ذابت ونارا انطفأت جذوتها، شربت الحثالة من ماء آسن غير صاف، كنت اقف حافة واد وعر التضاريس صعب المسالك أمامي نفق تكسوه العتمة وأعماق سحيقة لا قرار لها.
في الليلة الفائتة جادت امي ووالدي لزيارتي، كانت امي ترمقني بنظرات متفحصة ملحاحة ومتوالية، تفتش في كل جزء من جسدي عن فرحة ولو كانت عابرة، لكني اصبحت ارضاً يباباً قاحلة لا تجود بشيء ولا حتى بوعد مبهم للعطاء، كنت مثل اسفنجة مشبعة بالاوجاع والآلام، ولمحت في وجه والدي ذلك الحزن الشفيف والنبيل، لشدة ما تعذبني تلك النظرات الهاربة في عينيه الكليلتين.. كنت اريد ان اقول كلاما كثيرا لأمي، كلاما احتقن في صدري مدة ثلاثمائة وثلاث وستين يوميا، كنت بحاجة للبوح لا للشكوى، فالشكوى ترف صعب المنال لا استطيع الحصول عليه، عذبني الصمت، صمت متطاول شارف بي حد الجنون ولكنها كانت متعبة منهكة لم تتحمل ضوضاء المدينة وضجيجها وصخبها، لا يهم فوجودها بجانبي ولو لساعات ضنينة يمنحني ذلك الدفء الخالي من الشوائب والعوالق المقيتة.
عندما اسفر صباح اليوم التالي رحلا بصمت مثلما جاءا بصمت، وجودهما لم يكن محبذاً من زوجي ففي رأيه قد قبضا ثمني ولم يعد لهما حاجة، فهو يتعامل في شؤون حياته اليومية كما يتعامل مع تجارته وصفقاته، فكل شيء خاضع لمقياس الربح والخسارة.. كانا يزوراني على فترات متباعدة تماما مثل امطار الصحراء، يأتيان مثل ضحكة نقية وصافية لطفل سعيد.
الليلة العشرون بعد المائة السادسة:
ولدت صبياً ميتاً بعد آلام مخاض صعب وقاس.. بعدها فقدت كل خيوط التواصل معه.. أصبحت الوحدة تنهشني بتلذذ عجيب، في فترة الحمل العسيرة والشاقة كان مجرد وجود حياة أخرى تدب في احشائي تمنحني ذلك الاحساس بالأمل العذب والرائق، إحساس السجين بقرب الخلاص او شعور الفقير بزوال الفقر والحاجة، بعدها اصبحت من سقط المتاع وزوجة مركونة على رف قديم ومتهالك، كنت معه ألوذ بالصمت، والصمت وحده هو سلاحي الامضى والاوحد.. ملاذي الاثير وانتصاري الذي كنت استثمره بنجاح تام او شبه تام.
كنت امضي الليالي الطويلة وحيدة مسهدة فأنا والوحدة كنا متلاصقتين جسدا واحدا وروحين متلائمتين. وعندما كان يطارد صفقاته كان الزمن يتمادى في افراط مذهل وتصبح الثواني وحوشا ضارية تغرس مخالبها في جسدي المنهك.
جدار وراء جدار باب وراء باب متاهة من العبث واللاجدوى. الزمن هو عدوي الاوحد، فطالما ما كنت اشعر به يمتهن آدميتي ويهدر قدرتي على الصبر والاحتمال، عدو يشتمل على خسة طافحة بالنذالة والحقارة، أما الوحدة فكانت فيما بد تمنحني ذلك الصفاء الناعم والخدر اللذيذ أراها حلما بهيجا أذوب فيه بتؤدة وعلى مهل ففيه تتشكل الرؤى والأخيلة.
الليلة الأخيرة:
بيدي اليمنى كنت احمل ورقة طلاقي او خلاصي لم اختر أياً منهما فأنا سلبت حتى حق الاختيار، والدي ووالدتي كانا ينتظراني اسفل العمارة بينما كنت اخوض آخر معاركي.
قال له اولاده وزوجاته الثلاث الأخريات بعدما ولدت صبياً ميتاً آخر: هذه امرأة شؤم. مسكونة بالجن والشياطين.. نعم، كان جسدي وروحي ميدانا لمعركة ضارية غير متكافئة، لم تكن الحرية والفكاك من هذا الكابوس امراً مطلقا وحتمياً لدي فانا دوما ارضى بالقليل، ولم تكن احاسيسي الخائفة والمنزوية في ركن معتم تطمح الى اكثر من الخلاص من هذا التيه. هل يمكن ان اطلب اكثر من هذا؟.
عندما تحركت سيارة والدي «الوانيت» القديمة والمتهالكة وخرجنا من نطاق المدينة رأيت للوهلة الأولى قرص الشمس، كان اصفر حاد الحواف لم اكن اعلم هل هو في طور الشروق او الغروب، لا يهم هذا الآن، فكل ما حولي كان مستفزاً وعدائياً. ما كنت آراه أمامي هو الاسفلت يمتد ويتلاشى مع الأفق.
|