|
|
جعل الله تعاقب الأيام، وتتابع الشهور، مصلحة للعباد، وتجديداً للنشاط الذي خُلِقَ الإنسان لأجله، حتى يتقرب الى الله بأنواع الطاعات، ويتجدد النشاط، من بر وإحسان، الى صدقات وتفقد للمعوزين، الى رقّة في المعاملة وسماحة نفس، مما يشعر الفرد بترابط المجتمع معه، هذا فضلاً عن العبادات البدنية، من صلاة وصوم وحج، الى سخاء باليد عطاءًً، وباللسان ذكراً وتلاوة للقرآن الكريم، ودعوة الى دين الله، وصاحب العلم يعطي مما وهبه الله ليشكر هذه النعمة، بإفاضة ما عنده الى المتعطشين، تعبيراً لهم وتواضعاً في أداء حق العلم، حتى لا يكون علمه وبالاً عليه، أخذاً من القول الكريم:{هّلً يّسًتّوٌي الذٌينّ يّعًلّمٍونّ وّالَّذٌينّ لا يّعًلّمٍونّ} [الزمر: 9] . وإذا كان القول المأثور: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلّغنا رمضان، فإنما هو إدراك من الهادي البشير عليه الصلاة والسلام، لما في شهري رجب وشعبان من مكانة، يجب التقيد بها، وعدم الزيادة، أو الغلو بإعطائهما خصوصية، لم يأذن بها الشارع تأسياً بالقول الكريم:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ». أي مردود على صاحبه، فرجب من الأشهر الحرم، وشعبان قيل إن رسول الله صامه كله لمزيَّته. ولذا فإن على المسلم أن يقف حيث وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تبعه أصحابه رضوان الله عليهم عليه، فهم أعرف بالسنة، وأكثر تأسياً برسول الله من غيرهم، فكانوا يترسمون خطاه، ويعملون بمثل ما عمل، حرصاً وتوثُّقاً، ومع مكانتهم فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا رأى من أحد عملاً أو سمع منه حديثاً، لم يُحط به عمر يحتاط، وذلك من مخافته الغلو في الدين، وأن يسند لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عمل أو قول غير موثق.. فكان عمر يتوعد، ويقول: إن لم تأت بمن يشهد لك على هذا أوجعتك ضرباً.. وترتاح نفس عمر لمّا يوثق ذلك الأمر له، خوفاً على فتح أبواب لم يأذن الله بها، سواء كان عن اجتهاد أو تفكير، لأنه رضي الله عنه أخذ درساً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما جاء إليه وفي يده جزء من صحيفة من التوراة، فبان الغضب في وجه المصطفى المختار عليه من ربه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وقال:«أفي شك مما جئت يا ابن الخطّاب به، والله لو كان موسى حَيّاً لما وسعه إلا اتباعي» فرمى بها عمر وأظهر التوبة والندم.. كل هذا مخافة فتح ثغرة في شرع الله بالزيادة غلواً، أو النقص تهاوناً.. إذ يجب على المسلم حسن الاقتداء، والوقوف عن أوامر الله وأوامر رسول الله، والانتهاء عما نهى عنه المصدران الكريمان. وشهر رمضان الذي يظلّل المسلمين اشراقة قدومه في الساعات المقبلة، حيث يحرص المسلمون على ترائي هلاله، أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم - وفي رواية - غُبِّي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» رواه البخاري في صحيحه.. شهر كله خير وبركة: نهاره صيام، وليله قيام، فتجتمع فيه العبادة البدنية، بأنواعها: إمساكاً عن الطعام والشراب، وحفظاً للسان عن الغيبة والنميمة وقول الزور وما يتعلق بذلك، ومنعاً للشهوات البدنية في نهاره، وإباحتها في ليله، فيما يتعلق بالرجل مع أهله. هذا مع ما أعانه الله للصائم من قوة على العبادة بالدعاء والذكر، وتلاوة القرآن، وقيام لما يعين الله العبد عليه من صلاة في ليالي هذا الشهر، الذي أخبر صلى الله عليه وسلم:«بأنه شهر أوّله رحمة، ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار». فيستحب للمسلمين، ومن منحه الله حدّة في النظر، ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، إعانة لإخوانه المسلمين حتى يحتاطوا لصومهم، ويتابعوا سنة نبيهم، وحذراً من الاختلاف، ولذا كره العلماء صيام يوم الشك من شعبان وهو يوم الثلاثين، كما كرهوا سبق رمضان بالصيام بيوم أو يومين من شعبان، كما قالت عائشة رضي الله عنها: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحفَّظ من شعبان أكثر مما يتحفَّظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غُمّ عليه - أي كان في السماء كدر أو غيم لا تتحقق معهما الرؤية - فإنه يعد ثلاثين يوماً لشعبان ثم يصوم. رواه الإمام أحمد. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر في حديث آخر: بأن الشهر إما 29، أو 30 يوماً لقوله: الشهر هكذا وهكذا وهكذا ويشير بأصابعه العشر ثلاثاً، قال هذا مرة، ومرة أخرى قال مثل الأولى، إلا أنه خنس بإبهامه في الثالثة. والمسلم الذي يستقبل شهر رمضان، يجب عليه أن يحمد الله على أن بلّغه رمضان، لما فيه من الأجر الجزيل، والخير العميم، لمن وفقه الله، وحرص على مقاومة نفسه، بعد أن أعانه خالقه بتصفيد الشياطين، واضعافهم عن التسلط على الصائمين، لأن الصوم يضيِّق المجاري على الشيطان، الذي أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم. وإذا كان رمضان، قد أطلق عليه شهر الخير، فإنما هي خيرات كثيرة، سواء كانت صحية وبدنية، أو مكاسب يجدها المرء في رصيد حسناته، وأجره المدّخر عند الله، حيث تضاعف الحسنات، ويرق القلب فتسكب العين العبرات، ويلين الفؤاد فتجود اليد بالعطايا والصدقات، وتخشع الجوارح فيكثر التباري بالأعمال، والحرص على الجود والبذل بالهبات. والخير يبدأ مع الصائم من أول يوم، بحسن التقيد، والاهتمام بوظائف هذا الشهر جوداً وتسابقاً، يبرز أول ذلك من الفرحة برؤية الهلال فيتأسى برسول الله داعياً بقوله: الله أكبر ثلاث مرات: اللهمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب ربنا وترضى، ربي وربك الله، هلال خير ورشد، الحمد لله الذي جاء بشهر رمضان، وذهب بشهر شعبان، وهذه الفرحة بحلول رمضان تجعل المسلمين يهنئ بعضهم بعضاً، ويستعدون لهذا الموسم التعبدي بما يناسبه. بل كان سلفنا الصالح من إدراكهم لمكانة رمضان، وما يفيء الله فيه من الخيرات: يدعون الله ستة أشهر بأن يبلغهم رمضان، فإذا صاموه وانتهى، دعوا الله ستة أشهر بأن يقبل منهم عملهم وصيامهم في رمضان. كيف لا يكون هذا منهم، وهم يعرفون من الهدي النبوي: أنه شهر تفتح فيه أبواب الجنّات، وتغلق فيه أبواب الجحيم، ويدعو الداعي بقوله: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.. وان رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّث عن ربه جلَّ وعلا، بما في رمضان من جزيل العطايا، بمثل هذا القول الكريم:«كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» ثم قال: «للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربّه». ويسنّ للصائم: أن يفطر على تمرات، ويدعو ربه قائلاً: «اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، فتقبّل مني إنك على كل شيء قدير». وإذا أفطر يقول بعد حمد الله: ذهب الظمأ وابتلت العروق، ووجب الأجر إن شاء الله. وفي أول يوم يحرص كل فرد منا ألا يكون صومه وفطره سواء، بل يراعي مكانة وفضل رمضان، ويحافظ على قدسيته، ويكثر من العبادة والذكر وتلاوة القرآن، لعلّ الله يتقبَّل منه، ويسأل ربه الإعانة والقبول، ويبتعد عمَّا يجرح صيامه، ويؤثر على عبادته، حتى لا يقع في هذا العقاب، ويرغم أنفه، لأنه خرج عليه رمضان، ولم يغفر له، كما جاء في حديث جبريل، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها. |
[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة] |