المكان: الرياض البطحاء النقل العام
الزمان: عصر يوم الاثنين الثالث من شعبان 1424هـ
الوجهة: المدينة المنورة لزيارة المسجد النبوي الشريف والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الاتجاه إلى مكة لأداء العمرة.
والعمرة على حد قول الجمهور واجبة مرة في العمر كالحج.. قال تعالى: {(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) } .
لكن الحديث الشريف يحث على تكرار العمرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحج إلى الحج ورمضان إلى رمضان والعمرة إلى العمرة والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينها ما اجتنبت الكبائر.. وفي الحديث الشريف: «عمرة في رمضان تعدل حجة..» وفي رواية «حجة معي».
ركبت سيارة ابني متجهين إلى مركز النقل العام جنوب الرياض وأثناء الطريق تتصل بي ابنتي: بابا اخذت الجوال؟ نعم off course، ثم اتحسس جيبي «مخباي» فلا أجده فأقول لابني على استحياء: نسيت الجوال فيغضب ابني «رفيق» لكنه لا يملك من أمره شيئاً إلا ان نعود لاحضار الجوال «قلت: هارون الرشيد حاكم العالم لم يكن لديه جوال ولا والده المهدي الذي لو كان لديه جوال ما انفصلت الاندلس».
عدنا لإحضار الجوال وسرنا إلى المركز ودخلت أجر حقيبتي الصغيرة «صغيرة وأجرّها جَرّا» يا الله، ثم أسأل عن الحملة، ويأتي مسؤولها «أبوعبدالله مصري» بلحية كثيفة بيضاء وشماغ وضع أيسره على اليمين وأيمنه على اليسار فوق رأسه، وأدخلت «العفش؟!» تحت الاوتوبيس، وجلست في المقعد الأول «فرحان» بتعليماته، وانتظرنا التحرك، وكان الاوتوبيس «الحافلة» شغالا والتكييف يا سلام، ثم فجأة قال السائق «سوداني»: الاوتوبيس عطلان يا الله ونزلت ونزّلت العفش! «أو نُزِّل لي» وجلسنا ننتظر حافلة أخرى، وجلست على أصل «قاعدة» عمود كهرباء وكان الهواء يشوي الوجوه، فما رأيك بما تحتي من القاعدة وإذ كدت أنشوي وضعت شماغي تحتي، الطف قليلا، ثم جاء الاوتوبيس الآخر، وركضت لأجلس مكاني حتى لا يأخذه غيري، وبعد ان جريت ووصلت، كنت الآخر والكل استقل مكانه إلا انهم تركوا نصف المقعد الأمامي الذي كنت أريده شاغرا، وعلى النصف الأول جلس أحدهم من الربع فقلت له ان يسمح لي بالجلوس فسمح على مضض سامحه الله وقد كنت أحمل في يدي كيسين احدهما فيه زجاجة «طبعا بلاستيكية» ماء بريال وقد سخنت أثناء الانتظار وبالآخر لفّتا بسكويت «الزاد»، ولما جلست سقط الكيس الأول فطلبت من جاري ان يناولنيه، فناولنيه على اكثر من مضض، فسقط الآخر «أو أُسقط عمداً» فناولنيه وهو يكاد يتميز من الغيظ، وتذكرت منظرا مشابها للفنان عادل إمام وهو يحمل كيسا ورقيا به الخيار «مسرحية شاهد مشفش حاجة»، وأردت ان أطيب خاطر رفيقي فقلت له بلهجتنا: الاختيارية «الشيّاب» بيغلّبوا، و«يتعبون» وكنت أظن انه سيقول لي: العفو، انتو الخير والبركة، فإذا به يقول لي: «مرّة»، فقلت: يا الله «مرة أحسن من مرتين» دفاشة معهودة وسارت الرحلة مباركة ببركة المقصد حتى وصلنا المدينة المنورة، ووزعونا على غرف «مفروشة» ووضعوا اخواننا الباكستانيين معاً والعرب معا، فكنت أنا «فلسطيني على أردني، ومصري، وسوداني، ويماني» في غرفة «جامعة عربية»:
إن لم نكن في دمانا كلنا عرباً
فنحن تحت لواها كلنا عربُ
|
«اللغة العربية»، وكنا متفاهمين بل متآخين وعلقت ثوبي على مشجب على الجدار فقال زميلي: علقه في الدولاب «الخزانة» فأخذته وقلت له: أنا مش متعود طبعا انا القي ثوبي على السرير لتعلقه أم بشير إلا ان زميلي السوداني قال لي: متعود تعلق ع الحيط «الجدار» وكنت أريد ان أقول له: قبل ان يولد أبوك لدي غرفة نوم كاملة، إلا انني حاولت ان أملك نفسي، واحتفظت بكلامي في نفسي ثم اتجهت إلى المسجد النبوي الشريف. قال صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام بمكة والمسجد الأقصى ومسجدي هذا»، وفي حديث آخر: صلاة في المسجد الحرام بمكة بمائة ألف صلاة، وصلاة في مسجدي بألف صلاة، وصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة أو كما قال صلى الله عليه وسلم وقد صليت في ثلاثة المساجد والحمد لله، رد الله غربة المسجد الأقصى وفك أسره آمين .وأثناء الطريق أقل من 400متر كما قيل لي ظهرت لي أنوار المسجد النبوي الصلاة والسلام على رسول الله دخلت المسجد النبوي الشريف، ويا سلام: ما هذه البهجة التي شملتني؟! ما هذا الفرح الذي اجتاحني؟! ما هذه العبرات تنهمر من عيوني دموع الفرح مشاعر فياضة من الفرح والسرور، والنشوة والحبور، والرضا والقناعة، وحسن السمع والطاعة، هل صحيح انا هنا؟ الحمد لله، صليت الفجر واتجهت للسلام على سيد الأنام ومشيت مع الماشين وصعدت درجا وسمعت الناس يسلمون وسلمت على المصطفى صلى الله عليه وسلم «دون أن أرى شيئاً» ولكن أنا لا أرضى إلا المشاهدة مشاهدة الحجرة النبوية فاتجهت قبل صلاة العصر حتى وصلت الروضة الشريفة «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» ووقفت لأجد محلا الا ان شيخا من اخواننا غير العرب أشار لي بأصبعيه السبابة والوسطى بما معناه: هل ستصلي ركعتين فقط دون ان أحتل محله فأشرت بنعم فأفسح لي وصليت ركعتين ثم استطعت ان أجد لي مكانا حتى صليت العصر ووقفت مع الواقفين للسلام على رسول الله وجعلت نفسي على يسار الطابور وسلمت على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حاجة في نفسي قضيتها ولله الحمد.
هذا للدين أما للدنيا:
فقد دخلت إلى مطعم باكستاني لأتغدى وطلبت رزاً أبيض وإداما فأحضر لي طبق الخضرة فلفل اخضر مطبوخ بالصلصة المسبكة وقطعتي لحم والله يعينني على الدخول والخروج.
ومطعم آخر: تفضل ياحجّ «بالجيم المصرية» وتفضلت وقلت: ماذا عندكم؟ اتفضل شوف انت عايز ايه. يا سيدي ألا يوجد لديكم لِسْتة «قائمة»؟ لأ مفيش، طيب اذكر لي أكلة: خضار مشكل عال اعطني مع رز ابيض.احضر لي كتلة سماها صحن أرز بلا معالم والشرر يكاد يقدح من عينيه غضبا على جرأتي كتلة الأرز وعليها شعيرية شكلها مثل النمل وصحن خضار «مسبّك» على الطريقة المصرية بلا معالم؟ أيضاً وبه قطعة عظم صدقوني عظم مشفي «صافي» طيب يا اخانا ما فيه سيرفيس «مقبلات» احضر لي شيئاً من المخلل مع رغيفي نخالة، ولما جئت للحساب «تذكرت مسرحية «أهلا يا دكتور» لسمير غانم وجورج سيدهم وكيف وصف النادل «الجرسون» المحلي الذي لا يهتم إلا بالحساب وجدني المحاسب «مصري» معمما: طاقية بيضاء ملفوفة عليها طاقة قماش بيضاء مع ذؤابة طويلة تتدلى منها على ظهره وتذكرت الشاهد النحوي:
يَحْسَبُهُ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يعْلمَا
شَيْخَاً علَىَ كُرْسِيّهِ مُعَمَّمَا
|
وهو في وصف جبل الشيخ والشاهد فيه «لم يعلما».
قلت له: الحساب: عشرة ريالات، قلت له: ألا ترى أنهم وضعوا في الصحن قطعة عظم؟ قال لي: إنتَ دفَعْت ثمَنْهَا؟ يريدني ان أدفع ثمن العظمة باختصار ودون ان اطلب منه اعاد لي ريالين خد ريالين تشبرق بيهم .
شكراً.
وحادثة ثالثة تستحق التسجيل: جئت إلى شاب يبيع الهدايا وقلت له: اعطني شنطة علاقي بعشرة ريالات أنا حددت الثمن اعطاني حقيبة صغيرة قماشية قبلتها، إلا انه هوّن فأشار إلى زميل له ان يحضر حقيبة أخرى فقال له زميله: أي لون؟
غضب وقال له: أي لون! «وتذكرت بقرة بني إسرائيل وسؤالهم عن لونها»، المهم احضر حقيبة خضراء أصغر، قلت له: هذه أصغر قال: له سوا سوا، قلت له ضعهما معا فأبى، ومع اصراري قال لي انها اصغر قليلا فأصررت على حقيبتي وأخذتها.
لا أختم عن اقامتي في المدينة المنورة دون أن أوجه أحسن تحية للقائمين على المسجد النبوي على النظافة والترتيب رغم سيول الزوار صدق لا تجد قذاة ومن الترف الذي يجده الزوار انهم يقضون حاجتهم على الكهرباء، نعم سلم كهربائي ينزل المتوضئين ويصعدهم إلى ومن دورات المياه.
التوسعة: جزى الله خادم الحرمين الشريفين كل خير واخوانه على التوسعة المباركة، وان كان مثلي يشق عليه السير من أول المسجد إلى آخره.
أخذنا السائق إلى الزيارة أحد ومقابر الشهداء وسيدهم حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنهم اجمعين وجزاهم الله الجنة على بلائهم في الإسلام 70 شهيدا .
وزرت مسجد القبلتين وكان المصلون يصلون فيه إلى بيت المقدس شمال المدينة فجاءهم من أخبرهم وهم يصلون أثناء الصلاة ان القبلة تحولت إلى مكة فتحولوا، وفيه فائدة قبول خبر الواحد العدل.وزرت أول مسجد أسس على التقوى مسجد قباء «من تطهر في بيته ثم جاء مسجد قباء فصلى فيه فله أجر عُمرة» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
أخذ السائق منا عشرة ريالات مقابل ايصالنا إلى هذه الأماكن والله لو مائة رخيصة.
وفي وصف العمارة التي سكناها في المدينة ذكر انها قرب مسجد الإجابة، وسألت عنه صيدليا اشتريت منه قطرة أنف، فقال لي ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحضر إلى هذا المكان فيدعو فيستجاب له. صليت فيه المغرب ودعوت الله ما شاء الله لي ان ادعو، والمسجد يحتاج إلى نظرة من المسؤولين!
ودعت المسجد النبوي الشريف وتوجهنا إلى مكة المكرمة وأحرمنا في ذي الحليفة ويا فرحي بهذه الأسماء الإسلامية وسرنا إلى مكة ووصلناها قبل الفجر، أنزلنا في فندق أو قصر كما يسمونه وما أظن ان أحدا أقرب مني إلى المسجد الحرام، نزلت من الفندق وسألت أحد الناس أين الحرم فضحك وأشار إلي: هذا هو، أمامي.. الله اكبر شاهدت الأنوار المتلألئة عن المآذن ودخلت الحرم ومكة كلها حرم إلا انني اقصد المسجد الحرام ورأيت الكعبة المشرفة أول بيت وضع للناس، قال تعالى:{إنَّ أّوَّلّ بّيًتُ وٍضٌعّ لٌلنَّاسٌ لّلَّذٌي بٌمكَّةّ مٍبّارّكْا وّهٍدْى لٌَلًعّالّمٌينّ} كبرت لدي الرؤيا رؤيا أو رؤية الكعبة الشريفة، قال الراعي النميري:
فَكبّرَ للِرُّؤيَا فهشّ فُؤَادُهُ
وَبَشَّرَ نَفْساً كان قَبْلُ يَلُومُها
|
وجزى الله خادم الحرمين على التوسعة العظيمة، أظن ان المسجد الحرام يستوعب كل من قصد للحج أو العمرة أو لكليهما.
طفت وصليت ركعتين وسعيت وقضيت العمرة على أحسن وأيسر مما ظننت والحمد لله. وطفت مرة أخرى وثالثة واقتربت أكثر ما استطعت واشتد بي الحنين إلى تقبيل الحجر الأسود وكدت أصل ولكنني تعرضت لمدافعة وكادت تزهق أنفاسي وخرجت أو أخرجت، ولم أقبل الحجر تصرفت كأنني شاب والحمد لله الذي سلّمني وجلست في الصف الثاني حول الكعبة وأخذت كأسا من ماء زمزم شربت ومسحت وجهي وصليت المغرب والعشاء.
اليوم: صباح الجمعة: صليت الفجر، واتجهت قبل الحادية عشرة إلى الحرم لأداء صلاة الجمعة مع أنه لا جمعة على مسافر إلا ان من حضرها ممن لا تجب عليه أجزأته، ورأيت السيول تؤم الحرم السيول البشرية ولو جاء أضعافهم لاستوعبهم، ثم خطب الشيخ الدكتور صالح بن حميد خطبة الجمعة، فشرح رأي أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر لينتقل إلى ما يصيب البشر عامة والمسلم بوجه خاص من الأمراض وجزاء الصبر وجواز التداوي،
وضرب الأمثلة بأيوب صلى الله عليه وسلم، ومن التابعين عروة، ونبّه إلى ما يفعله الناس من التكالب على طلب العلاج. خطبة عظيمة مفيدة وأسلوب السهل الممتنع، لا تكلف ولا سجع، ولا تقعر ولا صنع، وفرحت بتلك الخطبة وحمدت الله ان حضرتها واستمتعت بالهدوء في الخطاب والدعاء، لا صراخ ولا صياح، فالله سميع قريب مجيب.
ثم غادرنا بعد صلاة الجمعة إلى الرياض، وقلبي معلق بمكة والمدينة وادعوا لي بالعودة.
|