ترددت كثيراً قبل كتابة هذه السطور الحزينة!!
ربما لأنني لا أجيد كتابة المراثي..
ولم أكن في هذه الكتابة في وضع نفسي يسمح لي بالتعبير عن مشاعري الكبيرة والصادقة..
ولكن وجدت نفسي مأخوذاً بلغة الكتابة المرتبكة..
وأدرك أنني أجرُّ الكلمات من مرارة الحزن والأسى مع الإيمان والرضا بقضاء الله وقدره وأنا أحاول إكمال هذه السطور المتعثرة بلغة الدموع..
وعزائي أنني أجد فيها تخفيفاً لواقعي النفسي من الشعور الحارق بالفراق الأبدي.. وألم غياب زميلين وصديقين من أعز الناس إلى نفسي وقلبي..
أي كلمات يمكن أن تعبر عن دهشة الوقع وكبير الخطب في مصابنا الجلل..
وأي تعبير يمكن أن يُسعف القلم ويريق مداده على الورق؟!
فقد جفّ القلم وبقيتُ لأيام معدودة غير مصدق لهول الصدمة..
رغم أنني رأيتُ بأم عيني تتابع الأحداث المؤسفة..
فقد مات زميلي الصحفي وصديقي الودود «أحمد شاهين» بعد أن قذفته السيارة بعيداً..
وبعدها بدقائق صُعقْتُ بنبأ وفاة زميلي الصحفي وصديقي المخلص «محمد ياسين» قبل وصوله إلى المستشفى..
بعد أن نعم انتشال الصديقين «علي بدير» و«محمد الهتار» من ركام الحديد ورمال الصحراء..
ثم لم أصدّق ولم أكن لأصدق لولا الإيمان بالقضاء والقدر..
فقد كانا رحمهما الله في كامل صحتهما وعافيتهما..
وكانا بكامل حيويتهما ونشاطهما..
ولكن «لكل أجل كتاب»
والله سبحانه وتعالى يقول في محكم التنزيل: {(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) } فسبحان من بيده ملكوت السموات والأرض.. ومن إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون..
فالحمد لله على ما أخذ والحمد لله على ما أعطى {انا لله وانا اليه راجعون}.
يوم أسود ولحظات عصيبة فجرت مكامن الحزن والأسى في نفوس الوفد الرسمي والإعلامي المرافق لسيدي صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن سلطان بن عبدالعزيز أمير منطقة تبوك في جولة سموه الكريم على محافظات وقرى وهجر ومراكز المنطقة.
واغرورقت عينا سموه الكريم بالدموع.. ألماً وحزناً على فراق اثنين من خيرة الصحفيين.
الفقيد «أحمد محمود شاهين» كما عرفته صحافي لامع عمل في المديرية العامة للشؤون الصحية بمنطقة تبوك ثم انتقل للعمل في بلدية منطقة تبوك مشرفاً على مكتب رئيس البلدية الدكتور علي بن سالم العصيفير ومديراً لإدارة العلاقات العامة والإعلام كما عمل مديراً لمكتب جريدة المدينة بتبوك، وقد سخر - رحمه الله - قلمه ووقته وجهده لخدمة دينه ومليكه ووطنه وهو من الرجال القلائل الذين يجيدون فن الحوار وحسن المعاملة مع طبقات الناس كافة صغاراً وكباراً.
فقد جمع - رحمه الله - صفات الحب والتقدير من سمو الأمير فهد بن سلطان لأمانته ونشاطه وإخلاصه في عمله ومن مختلف الطبقات الاجتماعية لحسن سيرته وطيبة نفسه وسمو خلقه وحسن معاملته.
فكأنه المقصود بقول الشاعر:
فتحَ الموتُ حينَ أغمضَ عينيهِ
عيونَ الوَرى على حَسنَاتهِ
وأكبر شاهد على ذلك زيارة سمو الأمير فهد بن سلطان لأسرة الفقيد في منزلهم بمحافظة ضبا وتقديم سموه الكريم العزاء والمواساة لأسرة الراحل واخوانه وابنه الصغير محمد وأهله وذويه وتكفل سموه - حفظه الله - بسداد جميع ديونه وإكمال بناء منزله مخاطباً سموه لهم بالأبوة والعطف والحنان وإشعارهم بأبوته الكريمة لهم بعد وفاة والدهم وفجيعتهم بوفاته..
لقد رحل «شاهين» وفي خاطره مليون غرسة لم تُثمر!
رحل أبا محمد الطائر المغرد في الفضاءات الجميلة..
رحل وفي القلب غَصَّة..
رحل بعد أن عشنا سوياً لهاث الصحافة وشهقات ميلاد الحرف..
رحل بعد أن صنع لنا نسيجاً مدهشاً من الحب والجمال.. في كل مكان كان يقصده.. في ضبا وفي تبوك وفي..
أشعر الآن يا شاهين أن قلمك قد عَصَفَتْ به مشاعر اليُتْم!
أشعر الآن أن طاولة مكتبك تغمرها الوحشة!!
كنت أيها الحبيب ممتلئاً بمخزون لا ينضب من العطف والحب لكل الناس..
كنت قلباً كبيراً وإنساناً هائلاً تعمرُ وجدانه البساطة والحب لكل تفاصيل الحياة..
آه.. أما أنت يا أبا معاذ فلي معك وقفات وتفاصيل.. لا تسعفني الذاكرة لسردها الآن..
فالزميل الفقيد الراحل «محمد ياسين عبدالقادر» صحافي مخضرم أمضى رحمه الله أكثر من أربعة عقود في الكتابة الصحفية تنقل خلالها في العديد من الصحف حيث عمل محرراً لصحيفة المدينة ثم مديراً لمكتب صحيفة الجزيرة بتبوك ثم مديراً لمكتب صحيفة البلاد بتبوك كما عمل رئيساً لتحرير مجلة تبوك التي تصدرها الغرفة التجارية الصناعية بتبوك كما عَرَفَته جيداً أزقة تبوك وأروقتها موظفاً في إمارة محافظة ضبا ثم في إمارة منطقة تبوك ثم انتقل للعمل في بلدية منطقة تبوك مديراً لمكتب رئيس البلدية السابق ثم انتقل للعمل في الهلال الأحمر السعودي ثم مسؤولاً للشؤون الإعلامية بالغرفة التجارية الصناعية بتبوك وسكرتيراً للجنة أصدقاء المرضى بمنطقة تبوك إضافة إلى عضويته في العديد من اللجان الاجتماعية والإعلامية المختلفة..
ولهذا فقد كان لفراقه رنة حزن وألم وأسى على الصعيد الرسمي وفي الوسط الإعلامي والاجتماعي حيث كان يرتبط بسمو أمير منطقة تبوك وسمو نائبه بروابط الأبوة والأخوة وروابط الولاء والحب والإخلاص..
فقد كان رحمه الله وجهاً مشرقاً يتلألأ نوراً ولطفاً.. سليم الطوية نقي الضمير صادق الوعد مخلصاً لوطنه أميناً في عمله وناصحاً مبيناً وصريحاً لا يجامل أو يداهن..
وبفقدنا «لأبي معاذ» فقدنا شخصاً عزيزاً كبيراً باذلاً للخير مقتصراً عن الشر والإساءة..
وليست أسرته هي التي ستفقده فحسب..
بل سيفقده جيرانه.. وأصدقاؤه.. وزملاؤه..
سيفقده المرضى الذي كان يعمل رحمه الله بصمت من أجلهم..
سيفقده رجال الأعمال والمسؤولون..
كنت يا أبا معاذ مثالاً في الكرم والسخاء والإيثار مصداقاً لقول الحق {(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)}.
كنت مثالاً في التحلي بالخلق الكريم وفي جملة كريم الخصال وأعمال البر والخير والإحسان..
وكنت مثالاً في العون والعطف والحنان وكنت مثالاً في الصبر على مُرّ الليالي والأيام لا يعلم شكواك إلا الله سبحانه..
وكنت أيضاً نعم المجاهد في عملك الوظيفي الطويل والشاق..
وقدمت الواجب العملي المنوط بك بكل أمانة ونزاهة وإخلاص.. فنلت بكل استحقاق رضا العاملين معك..
كيف لي أن أنسى يا أبا معاذ الأيام القليلة - قبل الحادث - التي أمضيناها برفقة الراحل «شاهين» والزملاء «المسلماني» و«الهتار» و«بدير» و«القرني» و«صلاح» و«القصير» وبقية الرفاق في محافظة ضبا تلك المدينة الساحرة التي طالما تغنيتما أيها الراحلان بجمالها الآسر وشواطئها الحالمة ورمالها الذهبية حيث شهدت تلك المدينة نشأتكما الأولى..
استرجعت آخر حديث دار بيني وبين الراحل محمد ياسين حين روى لي جزءاً من مشواره الحافل بالكفاح والجهد والصراع في عالم الصحافة والكتابة وقال لي يا أخ ماجد: الصحافة جهد وتعب وعرق.. محذراً رحمه الله من غدرها، كونها لا تحتفي في الغالب بأبنائها ولا تكرمهم إلا حين يموتون..
شرح لي باختصار رحلته مع الحبر والقرطاس والقلم..
وكأني أسمعُ الفقيد الراحل - تحت الثرى - يقول:
أقلب كتباً طالما قد جمعتها
وأفنيتُ فيها المال والعمرَ واليدا
وأعلم حقاً أنني لست باقياً
فيا ويحَ نفسي من يقلبها غدا
أُرقد بأمان «أبا معاذ» بعد هذه الرحلة المضنية والمتعبة..
أرقد أيها الحبيب.. ودعنا نواصل رحلتك في بلاط صاحبة الجلالة..
ويا أبناء أبي معاذ وأخاه ووالدته وزوجته الصابرة..
ويا أبناء أبي محمد وأخويه وزوجته المحتسبة..
فجيعتنا في الفقيد عظيمة.. وغيوم الحزن تظلنا جميعاً..
فإن كان من عزاء فهو هذا الحب المتدفق من كل صوب للفقيدين..
بدءاً من سمو الأمير فهد بن سلطان وحتى أصغر محب لهما..
وفي ذلك بعض التأسي وبعض السلوان..
ويا أصدقاء وزملاء الفقيدين:
عسير عليكم أن تلتقو مثلهما.. فلن يطيب لكم مجلس ولن يهنأ لكم ملتقى ولن يرقأ لكم دمع.. لكن إن شاء الله سيكون الغائبان الغاليان حاضرين بيننا في كل شيء.. في صمتهما الحزين وتراتيلهما الهادئة وفي سيرتهما العطرة وذكرياتهما الأثيرة..
والآن.. ماذا بقي لي سوى أن ألملم ما تبعثر من بقايا النشيج!! وأردد قول الشاعر:
إذا مَا دَعَوتُ الصَّبرَ بعدكما والأَسى
أجابَ الأسى طَوعاً ولم يجب الصَّبرُ
فإنْ ينقطعْ عهدُ اللقاءِ فإنَّهُ
سَيبْقَى عليكما الحزُنُ ما بَقيَ الدَّهرُ
ولا يفوتني في هذا المقام أن أرفع إلى صاحب القلب الكبير صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن سلطان بن عبدالعزيز آل سعود أمير منطقة تبوك العزاء والمواساة في الفقيدين الغاليين مقرونة بالشكر والتقدير لما لقيه أبناء وأسرة الفقيدين من رعاية واهتمام وهو شيء لا يستغرب على رجل الوفاء والصدق فهد بن سلطان..
كما أزجي الشكر والعرفان لسمو نائب أمير منطقة تبوك الأمير جلوي بن عبدالعزيز بن مساعد آل سعود على اللفتة الكريمة والمشاعر الرقيقة..
وداعاً أبا معاذ..
وداعاً أبا محمد..
وداعاً أيهما الشمعتين اللتين أضاءتا عتمة أيامنا..
فلقد أزف وقت الرحيل..
رحمكما الله وجعل مثواكما الجنة.. وجزاكما خير ما يجزي الصالحين..
وجمعنا بكما يوم نلقاه في مقعد صدق عند مليك مقتدر..
* كلمة وداع:
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
* مدير إدارة البرامج والأنشطة بمركز الأمير فهد بن سلطان الاجتماعي عضو الجمعية السعودية للإعلام والاتصال