هي مرة وحدة ركبت فيها باصاً جماعياً في الرياض. ركبت من أول شارع الوزير، ونزلت في آخره، تجربة لم تتكرر بعدذلك، حينها كنا في عصر التفاؤل والطموحات الكبيرة، كانت الرياض وغيرها من مدن المملكة ورشة عمل كل شيء يشير إلى أننا عما قريب سوف ننافس لندن، عندما نعود من لندن (كانت الناس دائما تعود من لندن) نعقد المقارنات، أهم ما يميز لندن تجربة الباصات ناهيك عن النفق الأرضي الذي لم يفد إلى أحلامنا حتى الآن، تجربة الباصات لم تكن غريبة على وعينا، الموظفون في الرياض كانوا يذهبون إلى أعمالهم بالباصات، والبنات يذهبن إلى مدارسهن بالباصات، والنقل الجماعي تقريبا جزء من ثقافة الناس، فالتكاسي كانت تشيل بربع ريال (سرفيس) كما يسميه اخواننا اللبنانيون، كانت الباصات الصفر جزءاً من المشهد في الرياض كما هي الباصات الحمر ذات الطباقين في لندن، فجأة اختفت الباصات واختفت فكرة النقل الجماعي، وأصبح كل فرد يجوب المدينة وحده، الذي لا يملك سيارة هو في الواقع معوق لا يستطيع ان يتحرك خطوة واحدة إلا بتكسي على حسابه. وكلما تزايدت الحاجة للباصات أمعنا في تغييب الفكرة.
لولا أن المرء يعيش هذا الوضع بشكل يومي لما استطاع أن يتخيل أن يعيش الطفل في حارة ويدرس في مدرسة تبعد عنه عشرة كيلومترات على الأقل. هذه هي قصة (أليس في بلد العجائب)، في كل مدن العالم المدرسة جزء من مفردات الحارة لا يسافر الطفل ليتعلم إلا بعد أن يصل إلى المرحلة الجامعية، في الرياض يبدأ من الروضة يسافر ما لا يقل عن خمسة كيلومترات ليصل إلى مدرسته، والصيغة الوحيدة ليصل إلى مدرسته هي السيارة الخاصة، وغالبا ما يكون في عهدة السائق الغريب، فرجة مميزة للأجانب. أعتقد أن مشهداً مثل هذا يمكن أن يضاف إلى المعالم السياحية لمدن المملكة، مئات السيارات تقف كيفما اتفق أمام المدارس وسائقون من كل الجنسيات وأطفال يخوطفون بين السيارات دون أن يعيرهم أحد أدنى اهتمام، وشباب مراهق يخوضون بسيارتهم لعلهم يشاهدون فتاة هنا أو هناك. وعدد قليل من الآباء يزاحمون السائقين لانتزاع اطفالهم من بوابات المدرسة، فضلا عن البواري والشتائم والصرخات المتنوعة.
أصبح هذا الوضع العجيب هو الوضع الصحيح ويجب ان تتكيف معه الحلول، لا يمكن أن تنادي بتصحيح هذا الوضع، فلا يمكن مثلا إعادة المدرسة الى مكانها الصحيح، فهناك مليارات صرفت لتشكيل هذا الوضع، وهناك أفكار قروقوشية أحاطت بحركة المرأة ليكون السائق الأجنبي اللاعب الأساسي في التحرك العائلي، إذا كان هذا الوضع لا يمكن تصحيحه في الوقت الراهن على الأقل يصار إلى إدخال بعض التحسينات عليه، مثلا إلغاء فكرة السائق والعودة إلى فكرة الباصات المدرسية، ينقل الطفل بشكل آمن وجماعي في باص، فكما يوجد طابور الصباح للدخول إلى المدرسة يفترض أن يكون هناك طابور لركوب الباص والعودة إلى المنزل.
على كل حال كلامي هذا كله سواليف من باب براءة الذمة أما العلم الاكيد تراه عند التجار وأصحاب الأفكار القرقوشية.
فاكس: 4702164
|