قال يونس: تزعم العرب ان الثعلب رأى حجراً ابيض في فجوة ضيقة من الجبل، فأراد ان يغتال به الاسد، فأتاه ذات يوم، وقال: يا أبا الحارث الغنيمة الباردة، شحمة رأيتها في فجوة ضيقة هنالك فكرهت أن أدنو منها لأنني أؤثرك بها، وأحببت ان تتولى ذلك انت بنفسك تقديرا مني لك، وحرصا على اكرامك، فتعال لأدلك على مكانها، قال: فانطلق الثعلب بالاسد حتى قام به على ذلك المكان، وقال: دونك يا أبا الحارث هذه هي الشحمة التي ذكرت لك، فذهب الاسد ليدخل في تلك الفجوة فضاق به المكان، فقال له الثعلب: ارْدُسْ برأسك، وادفع بنفسك، قال: فدفع الاسد بجسمه وحشر رأسه حتى نشب فلم يستطع ان يتقدم او يتأخر، فلما اطمأن الثعلب الى ذلك، أبدى أسفه على ما جرى للأسد، وتظاهر بأنه يريد انقاذه، فأخذ حجراً وبدأ يخدشه خدشا قويا من ورائه، فصاح به الأسد: ماذا تصنع يا ثُعالة؟، قال: أحاول ان استنقذك يا أبا الحارث، قال له: اتستنقذني من ورائي؟، انما تزيدني دخولا فيما انا فيه، قال الثعلب: صدقني يا ابا الحارث انني اريد استنقاذك، قال الاسد: اذا كنت صادقا فمن قِبَل الرأس اذن، فقال الثعلب بمكره المعروف: لا أحبُّ تخديش وجه الصاحب.
قال الميداني: يضرب هذا المثل للرجل يريك من نفسه النصيحة ثم يغدر بك.
قصة مثل عربي تجسد حالة اصحاب الخديعة من الناس، خاصة في مجال النصيحة والتوجيه والارشاد والاصلاح، فمن الناس من يفعل في نصيحته فعل الثعلب، يلين لك الكلام، ويبدي لك النصح، ويشعرك بأنه يريد لك الخير، ولحالك الاصلاح والرشاد، وهو يسعى منك الى ما يريد، وهذا الصنف من الناس لا يخرج عن احد رجلين، ناصحٍ أخطأ الطريق الى النصيحة الصحيحة، او حاقدٍ تظاهر بالنصيحة ليخدع بها صاحبه، وكلاهما خطر على صاحبه، لأن الناصح إذا لم يكن نزيهاً صار مثل الثعلب الماكر الوارد خبره في قصة المثل، واذا كان نزيهاًً ولكنه لم يكن متحرياً للطريق الصحيح في نصيحته صار سبباً في ضياع نفسه وضياع من أسدى إليه نصيحته.
فالثعلب في الخبر السابق يؤكد للأسد انه يسعى لمصلحته، مع ان الظاهر في القصة انه يريد القضاء عليه، ويعبر عن هذه الحالة بقوله: «لا أحب تخديش وجه الصاحب» ولو كان الحجر الذي يضرب به الاسد من ورائه ينطق لأكمل عبارة الثعلب بقوله: «ولكنني احب ان أقتله غدرا وغيلة».
ولو كان الثعلب نزيه القلب من هدف الغدر، لكان مخطئا كل الخطأ فيما يقوم به من ضرب الأسد بالحجر وهو في هذه الحالة لأنه يزيد حالته سوءا، ويعين عليه ولا يعينه، وبالرغم من ان الحالتين كلتيهما سيئة، الا ان حالة الخداع والغدر هي الأسوأ، خاصة اذا صدقها من وقع عليه الخداع والغدر.
وما دامت النصيحة بهذه الخطورة، فان الذي يتلاعب بها، ولا يستوثق منها، ولا يحرص على براءة ذمته من ميل نفسه وهواه فيها، يصبح من المفرطين الذين لا يختلفون كثيرا عن اهل الغدر والخيانة، ولعل ذلك هو المقصود في الأثر الذي يقول: «الناصح مؤتمن»، فالنصيحة امانة عظيمة لا يجوز ان تتحكم فيها الاهواء والرغبات وهي مهمة جدا لصلاح العباد والبلاد، ولاشك ان الهوى يعمي ويصم صاحبه عن الطريق الصحيح.
لقد اعمى الثعلب هواه في قصة المثل السابق فجرى في خديعته بالصورة التي رويت في القصة، وفحوى القصة يوحي بأن العلاقة بينه وبين الأسد لم تكن سيئة من كل الجوانب، بدليل انه استمع الى رأيه وصدقه حينما اخبره بخبر «الشحمة المكذوبة»، ومن هنا يتضح ان هوى النفس والانتصار لها هو الذي دفع الثعلب الى فعلته التي خدع بها صاحبه.
ان طرق الارشاد والخير والاصلاح واضحة تماما، تحتاج من اصحاب الرأي والبصيرة ان يتأملوها صابرين محتسبين صادقين، في قولهم وفعلهم، وان تكون نظرتهم بعيدة المدى، ليست محصورة في زاوية ضيقة يخفى على الناظر اليها ما بقي من زوايا الصورة الاخرى، ولاشك ان اصحاب الصدق في هذا المجال جديرون بأن ننصب اليهم ونعنى كل العناية بما يرشدون اليه، لان الصدق يهدي الى البر، اما النصيحة المغشوشة فهي البلاء.
إشارة
كلنا مخطئون، لكن علينا
ان نروم الهدى ونبغي السدادا |
|