Tuesday 21st october,2003 11345العدد الثلاثاء 25 ,شعبان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

بغداد يا قلعة الصمود..! بغداد يا قلعة الصمود..!
د. حسن بن فهد الهويمل

يبدو لي أنه لم يعد بمقدور المتبلدين إحساساً احتمال ما يرونه من مناظر مفجعة، وما يستمعون إليه من أخبار مزعجة، تجتاح مشاعرهم في الغدو والآصال عن عذابات (بغداد الرشيد)، بكل ما تنطوي عليه من طارف وتليد. ولا أحسب رجلاً فيه ذرة من إنسانية لا يتمعر وجهه مما يعانيه الإنسان العربي المسلم في بلاد الرافدين، مرقد الحضارات الشرقية والإسلامية، إلا إذا كان ك(المتنبي) في تساؤله المتألم:
(أصخرة أنا ما لي لا تحركني
تلك المدام ولا هذي الأغاريد؟)
وليس على أرض العروبة إلا العلقم والفحيح والويل والثبور، وما أكثر الذين لا تحركهم تأوهات المتعذبين، ولا يعتصر قلوبهم أنين المدنفين، ولقد أطلقها (حكيم المعرة):
(غير مجدٍ في ملَّتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شادي)
وبئست حضارة لا ترحم ولا تلين، ولا تقتضي نصوصها العدل والإنصاف والرأفة والحرية، وبئست أمة تقول آمنَّا، وهي لم تُسْلِم فضلاً عن الإيمان، والدين المعاملة والحب المتبادل والاهتمام بأمر المسلمين.
ومن ذا الذي لا يمضه الألم، ولا تذهب نفسه حسرات على ما يعانيه شعب عربي، مسه الضر، وأضنته المصائب، وتجرع مرارات الذل وعذابات الفقر ومنغصات الخوف، على امتداد الحكومات الثورية، وعلى يد قوات الاحتلال الأجنبي، الذي أحدث فراغاً دستورياً، تململت من تحته الخلايا النائمة، وتمكنت كل الفئات والطوائف والأعراق المكبوتة من أن تتنفس من تحت الماء، ممارسة أعنف المواجهات الدموية لتصفية الثارات واقتسام الغنائم، حتى لقد أصبح الإنسان العراقي شَويَّةً على سفُّود حكم جائر طاوله عشرات السنين، وفراغ دستوري مفزع، ومحتل يحسب كل صيحة عليه. والقارعة أن هذه الأوضاع تشكل خطورة محلية وإقليمية، وتهدد أنظمة وكيانات جُرَّت بالسلاسل إلى أتون الفتنة. فالحكم الثوري المتسلط انتزع الحرية، والمحتل المعتدي انتزع الأمن، فكان هناك أمن الخوف، ثم أعقبه خوف الفوضى.
والشعب العراقي الذي فقد إمكانياته المادية وطاقاته البشرية ومقوماته الحضارية طاولته محن الحروب الشرسة عشرات السنين العجاف التي أكلت البقرات السمان والسنبلات الخضر، حتى لقد ذهبت معها الأنفس والأموال والثمرات، واستفحل الجوع والخوف والمرض، وانتهكت الأعراض، وديست الكرامات، ولمَّا تلح للمتفائلين ولا للمتشائمين بوارق أمل، فكل شيء ينحدر إلى الهاوية، والناس من حوله في ذهول وارتباك وعجز. فالثورات في العراق دموية عنيفة، تعمدت التصفية الجسدية، واستمرأت الحروب الحدودية والطائفية، واختارت القبضة القبلية والحزبية الإكراهية، وتعمدت نسف جسور التواصل مع الأقارب والأباعد.
تحت هذه الظروف الضاغطة حاولتُ الهروب من الواقع المرير إلى الماضي المجيد، أملاً في بلسمة الجراح، فكان أن عدت إلى (مكتبتي)، وعنَّ لي أن أقرأ (بغداد) الحضارة والتاريخ، (بغداد) الأمجاد، (بغداد) الخلفاء والقادة والعلماء والشعراء والمفكرين، (بغداد) الحضارة الإسلامية والإنسانية. (بغداد) التراث والآثار، (بغداد) المكتبات والمتاحف، (بغداد الرشيد) الذي نظر إلى سحابة لم تمطر، فقال لها: (أمطري أنَّا شئت فإن خراجك عائد إلي)، وأربط بين بغداد الأمس المبهجة وبغداد اليوم المفجعة، وأسأل عمن اقترف هذه الجرائم المتنامية، وأعاد شبح الضياع. لقد تبدت لي في أعماق النفس جراحات (الفردوس المفقود). وما (قرطبة) و(طليطلة) و(غرناطة) من (بغداد) ببعيدة. وما حضارة (الأندلس) بأقل من (حضارة الرافدين) وما الظروف التي عاشتها (دول الطوائف) من تفكك وتنازع وانهزام فكري واستعداء للأعداء وضعف عسكري وديني واقتصادي وعصبية وإقليمية وطائفية وتفلت على الشرعية ببعيدة عما تعيشه دول المنطقة في راهنها الأليم. ولما كانت نقطة الضعف القاصمة في المثقف العربي أنه لا يقرأ الحضارة العربية إلا من خلال التاريخ السياسي، أو من خلال التجريح الاستشراقي، كان لا بد أن ننبه إلى ما أهمله القارئ العربي، ولم يهمله التاريخ، ذلكم هو (التاريخ الإسلامي) ولا سيما في ظل الظروف القائمة، التي تحمِّلُ الإسلام مقترفات المسلمين، وتُوجِّه بالحلول العلمانية، وكم هو الفرق بين تاريخ بغداد السياسي وتاريخه الإسلامي، وإن كنَّا لا نجهل «قرن الشيطان» ومطابخ الفتن وجدل (المغيرة) مع (عمر) و(الحجاج) و(البرامكة) والمحن والإحن والتاريخ الدموي.
ومع كل ذلك كنت أقول: إن هناك تاريخاً للإسلام وتاريخاً للمسلمين، وأن هناك فجوة بين التاريخين، وحضور تاريخ المسلمين يكاد ينفي حضور التاريخ الإسلامي. فالذين يقرؤون التاريخ السياسي وما أفرزه من ممارسات مناقضة لمقتضيات الفكر السياسي الإسلامي ومن صراع على السلطة، وظلم وجور واستبداد واستباق إلى الفتنة يصابون بالإحباط والشك والارتياب، وقد تبلغ بهم الحماقة ذروتها فيحمِّلون الفكر السياسي الإسلامي كل الجرائر، ولا يجدون ملجأ إلا أن يسايروا المعولين على تجارب الغرب العلمانية الشمولية، بحيث لا يفرقون بين محاسبة المبادئ ومراجعة الإجراءات، ذلك أن الفكر السياسي الإسلامي يستوعب محاسن السياسات السابقة منها واللاحقة، ولو أخذ به الساسة المسلمون كما أراده المشرع لكان القدوة لكل نظام سياسي، وقد أنكر الله على من استشرف لحكم الجاهلية {أّفّحٍكًمّالجّاهٌلٌيَّةٌ يّبًغٍونّ}.
والذين يتجاوزون أوضار السياسة، ويصلون حبالهم بالتاريخ الحضاري الإسلامي، يشعرون بمرارة الضياع. وقد تنبه البعض لهذه الحلقة المفقودة، وحاول أن يكتب فيها بعض ما يجب، نجد ذلك عند المؤرخ للعقلية العربية (أحمد أمين) في سلسلته الحضارية (فجر الإسلام) و(ضحى الإسلام) و(ظهر الإسلام) وهي دراسة حضارية لها وعليها، وميزتها أنها ارتبطت بالإجراء، ولم ترتبط بالنظرية، وانطلقت من التاريخ، ولم تنطلق من المساءلة والنقد، كما فعل (الجابري) في مشروعه الأكثر حضوراً وإثارة عن (نقد العقل العربي). ودراسة (أمين) حاولت أن تعيد قراءة التاريخ الحضاري بعيون العقلية الاعتزالية. وأكاد أجزم بأن أهم مرجعية لتأريخ الإسلام إنما هو: (تاريخ بغداد) و(تاريخ دمشق) و(سير أعلام النبلاء) وسائر كتب الطبقات والمناقب، ذلك أنها ترصد تاريخ صناع الحضارة والعلم، فيما يرصد التاريخ السياسي الحوادث المؤلمة والحروب الطاحنة والصراع على السلطة، وبين التاريخين يأتي (تاريخ التمدن الإسلامي) الذي أراد له المغرضون الحاقدون أن ينطلق من القصور وما فيها من الغلمان والجواري، ومن الحانات وما فيها من القاذورات، فعل ذلك (جرجي زيدان). وإذ غفل التاريخ السياسي عن المعطيات الحضارية، فقد غفل المؤرخون للتمدن الإسلامي عن المدنيات وزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وهكذا ضاعت الأمجاد بين الرغبات والشهوات. وكنت كلما عشت حالة من الكآبة واليأس والإحباط عدت إلى تاريخ الرجال، أجيل النظر فيما تركوه من حضارة فرطنا فيها، وتمثلها سراق الحضارات، وما فرطوا في شيء مما هو مناسب لمادياتهم، بحيث نقلوها مادة تتمثل بملايين المخطوطات وقطع التراث، وكتابة تقوم بتحقيق المخطوطات وترجمة المعارف، وامتثالاً يتجسد بالممارسات الدستورية والتشريعية والشورية، ولهذا قال بعض المفكرين:- رأيت في الغرب إسلاماً، ولم أر مسلمين، ورأيت في الشرق مسلمين ولم أر إسلاماً. وهي مقولة لها دلالتها، فالعدل والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص وإعداد القوة العلمية والاقتصادية والعسكرية من المقاصد الإسلامية التي تمثلها الغرب، وأهملها المسلمون، منشغلين بالتنازع على السلطة أو مُستَغلِّين بالغزو والتآمر.
و(تاريخ بغداد) الذي ركضت إليه برجلي بحثاً عن مغتسل بارد وشراب وثَّق حضارة العالم الإسلامي، وترجم للخلفاء والملوك والأمراء والوزراء والأشراف من علية الناس وسائر طبقات حملة العلم من النحاة والصرفيين والبيانيين واللغويين والقراء والمفسرين والمحدثين والمتكلمين من سائر النحل والملل والمنطقيين والأصوليين والمجتهدين والفقهاء والقضاة والفرضيين من سائر المذاهب والزهاد والنساك والمتصوفة والقصاص والوعاظ والرياضيين الحسَّاب والمهندسين والفلكيين والمنجمين والموسيقيين والأطباء والصيادلة والجراحين والكتّاب والخطاطين والمتأدبين والإخباريين والنسابين والمؤرخين والعروضيين والشعراء والمغنيين والرماة والفرسان وحذاق الصناع. كل هؤلاء يذكرهم، ويذكر مؤلفاتهم، وكل هؤلاء عاشوا في بغداد أو مروا بها، وها هي اليوم تخوض مستنقعات الفتن، ويكثر فيها الهرج والمرج، ويهددها التقسيم الطائفي والعرقي، ولا من ولي ولا نصير يواسي أو يأسو أو يتوجع. و(البغدادي) الذي أتى على كل هذه المعارف عاش في القرن الخامس الهجري، فكم من العلماء والمفكرين ممن جاؤوا من بعده، وجسدوا بعلمهم وثقافتهم وحذقهم جانباً من التاريخ الإسلامي.
هذه الفيوض وسعتها أرض الرافدين، ولما يزل العلماء والمفكرون والشعراء والأبطال يداس رفاتهم، وكأن المعري أدرك هذا ليقول:- (خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد)، وها هم علماء العراق وخبراؤه يتخطفون من حوله، كما تنتهب معالم الحضارة ونوادر الآثار، وكأن المحتل موكل بطمس الذاكرة والتاريخ معاً.
والخطيب البغدادي كما في (الوفيات 92/1، وتهذيب ابن عساكر 398/1، وطبقات السبكي 12/3، والمنتظم 265/8، والمعجم 13/4، وتذكرة الحفاظ 1135، والعبر 253/3، والشذرات 311/3) من الحفاظ المتقنين المتبحرين، وله إلى جانب التاريخ مائة مصنف، برع في الفقه والحديث والتاريخ، ولد سنة 392 وتوفي سنة 463هـ. لقد رصد جانباً من حضارة العالم الإسلامي الذي يعده المستكبرون من الشعوب المتخلفة، وما حل به وحال بينه وبين مواقعه الطبيعية إلا الاعتداء والمواطأة، اعتداء الدول الكبرى التي نظرت إليه كمارد في قمقم، ومواطأة الشعوب الإسلامية ممثلة بقادتها ونخبها وقابليتها للخنوع والخضوع والاستسلام. هذا التاريخ الحضاري حفظ للمنبهرين بمدنية الغرب من أبناء الإسلام ما تنطوي عليه بغداد الجريحة. والمؤلم أن هذا التاريخ الحضاري المشرق نبذه الأبناء العققة، وتلقفه الرجل الأبيض، ليشرق كما الشمس في ظلمات التخلف. والمستشرقون الشرفاء الباحثون عن الحق، ينصفون الحضارة الإسلامية، ويذكرون أفضالها على كل ما لحق من حضارات، والحاقدون الناقمون يكتمون الحق، وهم يعلمون، والتبعيون من أبناء المسلمين يسايرون أولئك، ويتصورون أنهم عالة بالفطرة على الغير، مؤكدين بفعلهم أنه لا فلاح لهم إلا بالمروق من الدين والدخول في الحضارة المادية. ولقد أصِّل الردة الحضارية في نفوسهم ما مروا به من تجارب وحدوية وقومية وحزبية فاشلة، وما عايشوه من حكومات عسكرية سامتهم سوء العذاب، وفي كل تجربة يرذلون، لأنهم يعودون لما نهوا عنه، ولا يستجيبون لما أمروا به.
والهروب إلى التاريخ الحضاري يبلسم الجراح، ويشفي الصدور، ويفتح أبواب الأمل، فالأمة التي تمتلك مقومات الحياة الكريمة قادرة على التحرف السليم، وإذا هبط النسر من قمته إلى السفح لأي سبب، فإن نسوراً أخرى قادرة على أن تعود إلى قممها، والنسر مهما ضعف لن يكون من بغاث الطير.
والأمة العربية التي تزحف في السفوح باستخذاء أبنائها ومكر أعدائها فيما يخفق بغاث الطير في الذرى بحاجة إلى من يعيد إليها ثقتها، ويبصرها بأمرها وبرسالتها في الحياة، لتبدأ رحلة العودة. وإذا كان (ديجول) و(تشرشل) قد أقالا عثرة (الفرنسيين) و(البريطانيين) في أحلك الظروف فإن (صلاح الدين) من قبل و(عبدالعزيز بن سعود) من بعد فلا مثل ذلك، فحرر (صلاح الدين) بيت المقدس ولملم «عبدالعزيز» أطراف الجزيرة، ولم تزل الأمة قادرة على إنجاب القادة المنقذين الذين يزنون الأمور، ويعالجون مناطق الضعف، ويعرفون الثنيات المهملة ومكائد الأعداء، ويفقهون الواقع، ويلبسون لكل موقف لبوسة، فلا يموؤون في وقت الصهيل، ولا يزأرون في وقت الضعف والهوان وقلة الحيلة.
لقد زرت العراق أكثر من مرة، يوم أن كانت المنطقة تعيش خدر اللعبة الكونية، وكانت النخب كما شاعر غزية في معيته الغاوية لا في إبانته الراشدة، والتقيت يومها بعمالقة الفكر والثقافة والأدب، وهم يعيشون حالة من الشلل الفكري، وتزودت من إبداعات المبدعين ومعارف المثقفين، ودخلت مكتباتها العريقة وتزودت منها بنوادر المطبوعات، واليوم لا نراها إلا مهيضة الجناح، لا تشم في أجوائها إلا رائحة البارود، ولا ترى على أديمها إلا الرماد والرميم.
عراق الحضارة تعرض لحملتين شرستين:- (التتار) و(التحالف) مهدت لهما أوضاع شاذة، خارجة على كل الأعراف والدساتير، والأعداد المتربصون كما الأوبئة تخمل عندما تقوى أجهزة المقاومة، وتستشري عندما يضعف الجسم، وتقل المناعة. وما أتى العالم الإسلامي إلا من قبل نفسه، فهو بأوضاعه وممارساته يشكل قابلية للاستعمار. والعراق العريق تتقاذفه أمواج عاتية من جور أبنائه إلى حقد أعدائه، ومن سوء أفعاله إلى خوف جيرانه، ولا منجى ولا ملجأ من الله إلا إليه، وعلى كل المضطهدين أن يفكروا ويقدروا، وألا يمكنوا العدو من أن يقتلهم من حيث يكون التفكير والتقدير.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved