تحايا الأصابع!!
لم يكن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آل بيته وسلَّم تسليماً كثيراً ينطق عن الهوى فتلك تعاليمه، وحدود أخلاقه، وقيم تعامله، وأسس سلوكه حيث أدَّبه ربُّه حين قال: ليس منَّا من لم يوقِّر كبيرنا، ويرحم صغيرنا..».
وتعوَّدنا في مجتمعنا على خلق الإسلام وآدابه، وكانت ضوابط هذا الخلق هي مقوِّمات سلامة المجتمع، لذلك كان مبتدأَ التكاملِ والتكافل، ومنتهاه..
وكلَّما تكافل المجتمع بأفراده في انسجام وتآلف، كلَّما وجد السرَّ في وجود علاقات احترام وتبادل توقير بينهم، وإسباغ رحمة بين كباره وصغاره، لذلك صُبِغ المجتمع المسلم بتكامل عناصر فلاحه، ونجاحه، وتكيُّفه..
ولكن: ما الذي يحدث الآن؟!.
عندما نعود إلى صورة المعلِّم في المجتمع المسلم، نجد أنَّه يحتفظ بمكانته بين تلاميذه ومريديه حتى بعد أن يكبروا، ويتقلَّدوا الأدوار ذاتها تلك التي كان فيها، غير أنَّهم لا يتعالون عليه في ضوء ما تحقق لهم في مجتمعهم، بل تبقى له المكانة العليا، ولعلَّ في تعامل جميع أفراد المجتمع من عِلْية القوم وأوسطهم وأيسرهم دوراً ومكانة علمية أو وظيفية مع نموذج المربِّي القدير الشيخ عثمان الصالح دليلاً قاطعاً على بقاء دعائم المجتمع المسلم.. ونموذجاً من المفترض أن يكون أمراً مألوفاً لا استثنائياً.
ولكن بعد هذا الرعيل ماذا يحدث الآن؟.
تقول المربية القديرة التي طلبت إليَّ الكتابة في هذا الشأن أن أحتفظ باسمها، لأنَّها كما تقول: واحدة من عشرات بل مئات ممَّن يقابَلْن بالجحود، والاستهتار بل النسيان من قبل تلميذاتها، حيث يبدأ عدم التَّوقير منهن بالنسيان، ومن ثمَّ بالتعامل معها في ندِّية تامَّة إن قُدِّر لها الالتقاء بأمثالهن، أو بهِنْ في مكان ما، فإمَّا أن يتجاهلْنها، وإمَّا أن يلقين إليها بتحية «الأصابع» ولا يكلِّفن أنفسهن حتى الوقوف، أو القرب منها للسلام عليها..، بينما هي ممَّن يفرحْن بهن، تهشُّ لهن، وتبشُّ في وجوههن، وتتذكر طفولتهن، عمرياً، ومعرفياً، وثقافياً .. و...
هذه الأستاذة المربية القديرة قد ربَّت الأجيال، ووجهت المئات منهن، وساندت الكثيرات ممَّن يعشن الآن في وهج الحياة، وبريق معطياتها..
إنَّ رسالة أستاذتنا القديرة تتحدَّث فيها عن ألم الفقد الذي تشعر به لكثير من قيم التَّعامل بين الناس، وبالحزن على تفككَّ الروابط على أيدي من يفرِّطون ويفرِّطن في وشائجها الجميلة القوية وذلك بالبعد عن سلوكٍ وجَّه إليه رسول هذه الأمَّة صلَّى اللَّه عليه وسلم، وكان فيه القدوة.
والشاعر العربي كان يقول: قُمْ للمعلم..
والمثل السائر يقول: من علَّمني حرفاً...
واليابانيون أيَّها المسلمون عندما يجدون أحد معلميهم في مكان ما، فإنَّهم لا يلجون من أبوابه قبل أن يخلعوا نعالهم عند الأبواب، ويُلجمون أصواتهم ويدخلون وهم يمشون على أطراف أصابعهم، حتى يمثلوا بين يدي معلمهم ذلك، فيقدِّمون له السلام، وتحايا الطاعة، والتَّوقير حتى يأذن لهم. لا ينظرون للونه ولا لهيئته، ولا لمنصبه. إذ يبقى ذلك الذي دقَّ في رؤوسهم ونفوسهم أوَّل مسامير بناء المعرفة.
ونحن ما الذي نفعله؟...
ولا تزال تحايا الأصابع تعيد إلى ذاكرتي شريطاً بأوجه نماذج من هؤلاء!!.
إذ لم تنجُ ذاكرتي من مشاطرة المربية الفاضلة في ذكرها. فاللَّهم أهد قلوب قوم لا يفقهون. وأعنهم على تربية أنفسهم والاقتداء بسيِّد الخلق أجمعهم، أكثرهم تواضعاً، وأصدقهم وفاءً.
|