وقف بي خيالي أمام كلمة المروءة، وقفةً طالت حتى تحوَّلت إلى تأمُّلٍ وتفكيرٍ، وصارت باباً مفتوحاً لفاتنة بارعة الجمال دخلت منه الى عقلي، وتسلّلت الى قلبي، فلما لامست شفاف قلبي، واستقرت في سويدائه، سألتها سؤال المعجب بجمالها، الباحث عن أسباب حسنها وكمالها، فقالت مقالة لبست وشاح الفصاحة، وفاحت بأشذاء البلاغة، وأشرقت بأضواء البيان، قالت:
أنا المروءة تنقلت من زمانٍ الى زمان، ورحلت من مكان الى مكان، عاشرت أقواماً فأكرموني، ورفعتهم كما رفعوني، عرفوا قدري، وشرحوا بمكارم أخلاقهم صدري، وعاصرتُ آخرين، كانوا أقسى عليّ من قسوة فرعون على بني إسرائيل، فما استطعت بينهم مقاماً، ولم يستطيعوا هم ثباتاً على حال، وكانت أمورهم الى زوال.
أنا المروءة، ألا تعرف ملامح وجهي؟، ألا تسمع نبرات صوتي؟ ألا تعيش معاني كرامتي وإبائي؟ ألم تقرأ ما كتبه عني «ابن هذيل» في كتابه الجميل «عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرئاسة»، ألم تكتحل عيناك بحروفه الجميلة وكلماته البليغة التي وصفني بها أجمل وصفٍ وأكمله.
أنا المروءة يعرفني كرام الرجال، وتسعد بي كرائم النساء، سليمة الصدر، رفيعة القدر، أصبحت شعاراً لمكارم الأخلاق، نبراساً لكرم الأعراق، بي يرتفع مقام الإنسان، وبمحاسني يتغنى اللسان، غايتي: مراعاة الأحوال التي يكون بها الإنسان كريماً، حليماً، صادقاً، وفيّاً، وقوراً، وصفني افضل الخلق عليه الصلاة والسلام وصفاً مازلت أفاخر به كل صفة نبيلة، وخلق كريم، حيث قال، وهو الصادق المصدوق: «من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كَمُلَتْ مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت اخوته» أرأيت مكانةً عالية في الصفات كهذه المكانة التي منَّ عليّ الله سبحانه وتعالى بها، وشرّفني بحملها حتى أصبحت كلمة «المروءة» أفضل كلمة مدحٍ يمدح بها إنسان، وحتى صارت ذات علاقة بالدين وطيدة، ومكانة في الأخلاق مجيدة، فلا دين إلا بمروءة، لأنني في الإسلام أعني: استحياء المرء من الله أولاً، ثم من نفسه آخراً، وإذا استحيا الإنسان من ربه عز وجل، ثم من نفسه، فقد أصبح ذا خلق رفيع يجعله جديراً بأن يقال له «صاحب مروءة» وحينئذ يكون من الفضلاء الأكرمين.
أنا المروءة التي قال عني ابن سلام الجمحي: حدّ المروءة رعي مساعي البر، ورفع دواعي الضر، والطهارة من جميع الأدناس، والتخلص من عوارض الالتباس، حتى لا يتعلق بحاملها لوم، ولا يلحق به ذم، وما من شيء يحمل على صلاح الدين والدنيا، ويبعث على شرف الممات والمحيا، إلا وهو داخل تحت المروءة.
أنا المروءة، قال عني بعض الحكماء: إنني اعني طهارة البدن، والفعل الحسن.
انصر الى ملامح وجهي فسوف تشاهد نور وفائي، وشمس صفائي، وسوف تقرأ في ملامحي كلّ معاني الخير، والصدق، والرحمة، والتواضع، وعدم الإساءة الى الآخرين، إذا رأيت خيراً فرحت به ونشرته، وإذا رأيت شراً حزنت من أجله وسترته، وبسببي عفا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رجل جيء به إليه لجناية جناها وكان يريد معاقبته، فقالوا له: إن هذا الرجل صاحب مروءة، فقال: استوهبوه من صاحب الجناية ليعفو عنه، وكان العفو من نصيب ذلك الرجل لأنني قد صفيتُ قلبه، وزيّنت أخلاقه، ورفعت قدره.
أنا المروءة، أبعث برسالتي إليكم في هذا العصر الذي كثر فيه إيذائي، وزادت فيه الإساءة إليّ من رجال ونساء يسيئون القول، ولا يحسنون العمل، يتيهون في هذه الحياة غير آبهين بمكارم الأخلاق التي لا يقوم مجتمع إلا بها.
رسالتي اليكم، رسالة محب مشفق، يخشى عليكم الضياع حينما تتركونني وحيدة، وتنطلقون وراء كل صورة باهتة من صور مدنية عصركم الزائفة.
أقول لكم، انني طريقكم الى الرقي بأنفسكم فلا تضيعوني فتضيعوا، اللهم اني قد بلغت، اللهم فأشهد.
إشارة
كمال المروءة صدق الحديث
وستر القبيح عن الشامتينا
|
|