لن أتحدث عن مفهوم التربية ولا عن مفهوم الأمن ووظائفهما وأهدافهما مكتفياً بما يتبادر إلى الذهن عند إطلاق هذين المصطلحين لأنه يغني عن الإسهاب والبسط في تعريف المفهوم مما لا حاجة إليه في هذا المقام الذي يحتاج إلى بعض الجوانب التطبيقية المهمة ذات الأثر الفاعل في علاقة التربية بالأمن وعلاقة الأمن بالتربية إذ العلاقة بينهما علاقة تفاعلية أي أنها تتبادل التأثير فيما بينها ومن ثمَّ يمكن تنظيم هذه العلاقة من خلال منطلقات تطبيقية يمكن تنفيذها في الواقع ولا سيما هذا العصر الذي أصبح فيه الاقتيات من التوصيات سمة كثير من الدراسات والمؤتمرات والندوات والمنتديات ثم يفجعك أنه لم يطبق غالب - إن لم يكن كل - هذه التوصيات لأنها غير قابلة للتطبيق أساساً لأسباب يأتي فقدان سلطة الإلزام على رأسها ثم ما قد تتصف به تلك التوصيات من إيغال في النظريات البعيدة عن ظروف الواقع وقد لا تتفق مع متطلبات التخطيط أو قد تتجاهل التنسيق مع العاملين في الميدان من أهل الاختصاص أو من لهم علاقة مباشرة أو غير مباشرة به مما لا يمكن تجاوزه عند التطبيق العملي، وغير ذلك من أسباب لا تخفى على ذي لب وبصيرة.
في موضوع العلاقة بين التربية والأمن نجد أن التربية ضرورة من ضرورات سلامة النسيج الاجتماعي وصحة العلاقات بين أفراده تعاملاً وإنتاجاً، تأثراً وتأثيراً، فلا غرو إذا كانت التربية من أهم وظائف المرسلين قال سبحانه وتعالى: {(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ)} [البقرة: 151] ، كما نجد أن الأمن ضرورة أخرى لهذا النسيج ولهذه العلاقات لأن الأمن بمختلف مجالاته الأمن الروحي والأمن الاقتصادي وغير ذلك من أنواع الأمن نعمة من نعم الله عز وجل كما قال تعالى: {)لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) (1) )إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) (2) )فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) (3) )الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (4)} [قريش: 1 - 4] ، وقال سبحانه وتعالى:{(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)} [النحل: 112] .
وفي ضوء هذه الأهمية للتربية وللأمن وشمول مفهومهما يتضح أن مسؤولية تحقيقهما لا تقتصر على أفراد معينين لا بصفتهم الشخصية ولا بالنظر إلى وظائفهم الاجماعية، كما أنها ليست محصورة في نطاق جهة واحدة، بل لا بد أن تتضافر جهود الأفراد والجهات للقيام بهذه المسؤولية كل في حدود ما أوجبه الله عز وجل عليه.
فهذه المسؤولية منوطة بالمؤسسات التعليمية وبمجتمع الأسرة وبوسائل الإعلام والاتصال المختلفة وبجهات الوعظ والإرشاد وبالمؤسسات الأمنية المتعددة وبكل جهة أو فرد لها أو له علاقة بالسعي للإصلاح ونشر الوعي والخير بين مجموع الناس وفق الضوابط الشرعية.
والتربية والأمن يجتمعان في صعيد واحد يمثل منطلق كل إنسان ومن ذلك:
أ - أن الإنسان مدني بطبعه فهو بحاجة إلى الأصدقاء ولا يمكن أن تتم هذه المدنية ولا أن تستقيم هذه الصداقات وتنتج إلا في ظلال التربية والأمن معاً.
ب - أن الإنسان قابل للخير وللشر فهو بحاجة دائمة إلى التوجيه كما قال تعالى: {وّهّدّيًنّاهٍ النَّجًدّيًنٌ} [البلد: 10] والتوجيه وإن اختلفت أساليبه ووسائله باختلاف مؤسساته إلا أنه وظيفة التربية والأمن معاً.
ج - أن سلامة الإنتاج البشري متوقفة على عدة عوامل منها الحاجة إلى الألفة والطمأنينة والسكينة وهذه لا تتحقق إلا بالتربية والأمن معاً.
ثم يقال: إن من أهم الصور التطبيقية للعلاقة التكاملية بين التربية والأمن ما يلي:
1- في الجانب التربوي والتعليمي تبرز ضرورة التركيز في الموضوعات التربوية على الجانب الأمني من خلال منطلقات أهمها:
أ- الشمول بحيث تشترك عناصر العملية التعليمية كلها في إبراز الجوانب الأمنية عن طريق الكتاب - المنهج الدراسي عموماً - والمعلم والمرشد الطلابي واستثمار النشاط الطلابي والعلاقة الاجتماعية للمؤسسة التعليمية للتعريف بالمؤسسات الامنية ووظائفها التربوية والاجتماعية والاقتصادية الخ..
ب - تنوع أسلوب العرض التعليمي والتربوي لوظيفة المؤسسات الأمنية تأصيلاً وواقعاً بحيث يشمل الأساليب المباشرة من خلال وصف تلك الوظيفة والاختصاصات، والأساليب غير المباشرة عن طريق القصص المعبرة عن تلك الوظيفة في المنهج الدراسي مثلاً.
2- في الجانب الأمني تبرز عدة ضرورات من أهمها ما يأتي:
أ - ضرورة العناية بوظيفة العلاقات العامة والتوجيه في المؤسسات الأمنية للتعريف بأهدافها الأمنية والتربوية عن طريق تنظيم زيارات للمدارس يقوم بها بعض كبار المسؤولين الأمنيين وتنظيم زيارات لطلاب المدارس - في المراحل التعليمية المناسبة - للاطلاع على عمل الجهات الأمنية في الميدان وما تحققه من آثار تربوية مهمة.
ب - هناك ضرورة مهمة في العلاقة بين التربية والأمن قد يغفل عنها الكثير وهي ضرورة العناية بالجانب التربوي في المجال الأمني عن طريق تربية رجل الأمن وإعداده ليكون مخلصاً في عمله، يحسن التعامل مع المستفيدين من وظيفته، منصفاً لا يظلم الغير بحكم طبيعة عمله التي تعطيه حق العقاب في كثير من الحالات، وهذا الجانب ولله الحمد عنيت به دولتنا الرشيدة عند إعداد رجل الأمن، ولكن تعدد المهام الأمنية ولكون الجانب التربوي بحاجة دائمة إلى إيقاظ واستحضار انطلاقاً من قول الله عز وجل: {وّذّكٌَرً فّإنَّ الذَكًرّى" تّنفّعٍ المٍؤًمٌنٌينّ} [الذاريات: 55] ، فإن المأمول زيادة جرعات الإعداد التربوي لرجال الأمن في كل القطاعات الأمنية، وشمول هذا الإعداد - لأهميته - العاملين في الميدان وفي المكاتب.
إن الهاجس الأمني في المجال التربوي وإن الهاجس التربوي في المجال الأمني في ضوء المتغيرات العصرية في مختلف مجالات الحياة في ظل تعدد قنوات الاتصال والانفتاح على الثقافات المختلفة بسلبياتها وإيجابياتها يجب أن يوقظ في أنفسنا أهمية التخطيط والتنسيق في هذين المجالين المهمين - التربية والأمن - من خلال منطلقات واقعية يمكن تنفيذها بحيث يتم التوصل إليها عن طريق استقراء حكيم للواقع يُراعى فيه الثوابت والمسلمات والأعراف القائمة والمجالات الممكنة في ضوء التطورات التي يشهدها العصر الذي نعيشه مع الحساب الأمين لخصوصياتنا الدينية والاجتماعية، وعن طريق هذه المنطلقات يمكن أن يتحقق العلاج الشافي بإذن الله لبعض الظواهر السلبية التي أطلت برأسها في مجتمعنا في المجال التربوي وفي المجال الأمني مما يستدعي علاجاً حكيماً لا بد أن يحسب فيه حساب بعيد المدى.
وإن الدراسات العلمية التطبيقية - سواء في مجال الدراسات الجامعية والدراسات العليا أو في مجال البيوتات والمؤسسات البحثية المتخصصة - إذا نفذت بطريقة صحيحة بحيث تكون ملامسة شغاف الواقع المعاش تعدُّ من أهم مفاتيح الوصول إلى الأهداف المرومة وتحقيق الآثار الايجابية المطلوبة، لأنه يمكن حينئذ الركون إلى نتائجها بشكل كبير وهي فيما يتعلق بالعلاقة بين التربية والأمن أشد إلحاحاً وأكثر أهمية بحكم تغلغل هذه العلاقة في ضرورات أفراد المجتمع بجميع قطاعاته وفئاته.
وبالله التوفيق،،،
ص.ب 30242 الرياض 11477
|