هناك في خليجنا الغارق في (فردوس النعيم النفطيّ) مَنْ يلعن النفطَ سراً وعَلناً، بحجّة أنه خَلطَ الكثيرَ من المعَايير والقِيم وأنْماطِ العيْش، فإذا إنسَانُ ما قبل النفط يبدو في (قاموس) الجيل الجديد نَكرةً، وكأنّه ينتمي إلى عصور سحيقة من الزمن، في حين إن الفاصلَ الزمنّي بين الجِيليْن، ما قبل وبعد النفط، يقلّ عن نصف قرنٍ تقريباً!
**
* بل وأذهبُ إلى أكثَر من ذلك فأَزعمُ أن التركيبةَ الحاليّة لمجْتمع الخليج قد أفْرزتْ شرائحَ عجيبةً من السلوكِ والميولِ والمشاربِ تنتظم فيها (عيّناتٌ بشريةٌ) تَدينُ بالانتمَاء إلى الماضي والحاضر، تنسَجمُ مع بعضها حيناً، وتَتَضادُّ في صَمتٍ حيناً آخر، (وتَتهَادنُ) حيناً ثالثا!
وقد تنفرطُ الهدنةُ فجأة منذرةً بصراع (تشتبك) فيه الأنْفسُ والأنفاسُ!
**
* والحقّ أن إنسانَ ما قبل النفط كان يسعى في مناكِب الأرض.. بحثاً عن زاد يومه، لم يكن يهمُّه.. سوى صلتِه بربِّه.. وأن يقْهرَ شَبحَ المواجهة اليومية مع الفاقة أو يؤجلها يوماً.. أو بعض يوم!
**
وجاءَ النفطُ، فتبدّلَ الحالُ!
* تعاظَمَ الدخلُ.. فتعاظمتْ حاجةُ الإنسان الخليجيّ.. نوْعَاً وكمّاً.. واستيقظتْ في خاطره نزعةُ الاستهلاك.. وغريزةُ التملّكِ.. لم يعدْ يعاني محنةَ الجوع، كما فَعل بالأمس.. بل صار يشكُو فتنةَ الشَّبع.. باتَ الترفُ نَسقَ يومه، وحُلمَ غده! وهو إلى جانب ذلك، مسرفٌ إذا أكل أو شَرب، مسرفٌ.. إذا اكْتسَى أو كَسَى، مسرفٌ.. إذا سكن أو ركب!
**
نعم.. تَبَدّلَ الحالُ.. غَرِقَ الحسُّ الخليجيُّ في لجّة اليُسْر.. وغَارَ الإحساس لدى البعض في قَاعِ الترف.. ضعفتْ أواصَر ذوي القربى.. وعزَّ الاتصَال، رغْم توفّر أدواتِه وآليّاتِه! صار أحدُهم لا يرى أخاه أو خِلَّه إلاّ بموعدٍ، خشيةَ أنْ يُفسِدَ عليه بحضوره المفاجِئ.. سكينةَ نفسٍ أو نشْوةَ بال!
**
البعضُ الآخر.. فرّقْتْهم مسَافاتُ الاثْرةِ والحسَد.. وحبّ المال.. غدتْ (المصلحة) ناموسَ الأفراد.. بعد أن كانت حُكْراً على السياسة وأهلها.. تداخَلتْ الأوراقُ، واهتزّت القِيمُ، باتَ جاهُ المرء يُقَاس بمالِه، لم تعدْ الأخلاقُ (ثروةً) في عُرف البعض، بل الأسهم والسندات.. ومضاربات العقار.. وعروض التجارة!
**
والأنكى من ذلك كله أنه نَشَأَ لدى البعض إحْسَاسٌ غريبٌ ينفّر من هُويّة الأمس.. بفطرتها وعفويتها.. ونَقَائها!! تحوّلَ إنسانُ الأمسِ في وجْدَان البعض إلى مخلوق (قَرويّ) القيافة واللسَان، حلَّ بدلاً منه (إنسان النفط) الملوّن.. طباعاً.. وهيئةً ولساناً!!
**
وبعد..
فلم يكن المرادُ من السطور السابقة التنكَّرَ لأنْعُمِ الله، أو الجحُود لآلائِه. فقد منّ سبحانه وتعالى على إنسان هذا الخليج بنعمة النفط. فسَخَّرها لتحقيق نقلاتٍ حياتية وحضارية بدّلت حالَه.. بحالٍ!
لكن.. هناك من جَحَد هذه النعمة أو أسَاءَ إلى نفْسِه من خلالها.. فلم يحصِّن ذاتَه من سلبيات النقلة الحضارية التي اتاحَها النفطُ وتركَها تُسيِّرُ حياته في موكب الهَوى.. حتى ظنَّ بعضُ الجاهلين.. أنّ النفطَ(نقمةٌ).. وما هو بذلك!
**
باختصار: ليسَ بالنفط وحدَه نحيَا.. أو نسعد!
* فنحنُ نحتاجُ أشدَّ ما تكونُ الحاجة، مع النفط وبدونه، إلى جُرْعَاتٍ من الحبّ.. تضاعفُ في أفئدتِنا شفافية الإحسَاس، ونبلَ الظنّ،وأريحيّةَ الخير!.
* نريد وَعْياً.. يعيدُ لنا حَدّاً أدْنى من كرامة الروح التي أجْهَدُها شهوةُ الترف!
* نريدُ توازناً بين أصَالة الأمس واشراقةِ اليوم.. وطموح الغد!
|