أغلب الجامعات في الداخل والخارج تصطبغ بهوية تميزها عن غيرها. وقد عرفت جامعة الإمام على سبيل المثال في المملكة بتعليم العلوم الشرعية والعربية فأصبحت مرجعاً ومعلماً لهذه العلوم واشتهرت بها على نطاق العالم الإسلامي، في الوقت الذي اشتهرت جامعة الملك سعود بالمواد العلمية والطبية، فأصبحت رائدة في هذا المجال. ولما كانت منطقة القصيم - كمثال - تحتضن فرعين للجامعتين «الإمام وسعود» فإن القرار الحكيم بدمج الفرعين يشكل تكاملية متميزة لجامعة المستقبل في المنطقة تجمع بين أصالة العلوم العربية والإسلامية وبين العلوم العلمية المعاصرة بمختلف تخصصاتها. وبالتالي فجامعة القصيم يجب أن تؤكد على هذه النظرة وهذه التكاملية التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة سعياً للتقارب والتكامل البناء وتحقيقاً لسياسة التعليم العليا من ناحية وتأصيلاً وتربية وتأهيلاً للعاملين والمستفيدين من خدمات ومخرجات الجامعة من ناحية أخرى.
وتعتبر الجامعة مؤسسة علمية لها دور علمي وتنموي في المجتمع المحلي. وتأتي أهمية هذا الدور من كون الجامعة تضم أقساماً علمية مختلفة تخرج أعداداً كبيرة من الطلاب يسدون حاجات المجتمع من العمل ويشغلون الوظائف اللازمة لعملية التنمية.
وفي الواقع أن الجامعة لن تحقق هذا الدور العلمي التنموي إلا من خلال وضوح رسالتها وتعاملها الأمثل مع ظروف المجتمع المحلي المحيطة بها وشعور أبناء هذا المجتمع بأهمية رسالتها.
ولذلك يمكن القول بأن «الحكم على مدى النجاح الذي تحققه الجامعة في دورها العلمي التنموي يأتي من الإنجازات الملموسة التي يشهد بها واقع المجتمع المحلي». ومما لاشك فيه أن الجامعة تحقق عادة نجاحاً ملحوظاً في توسيع العملية التعليمية فشملت الإناث إلى جانب الذكور، إلى جانب تزايد أعداد كبيرة من الباحثين والعلماء في كافة مجالات العلم المختلفة. إضافة إلى ما توفره الجامعة من خدمات استشارية وأدوات بحثية ودورات علمية متنوعة تخدم مختلف المجالات الحياتية.
ولكن نجاح الجامعة في دورها التنموي مازال موضع بحث ومناقشة وفي تصوري أن نجاح الجامعة في دورها التنموي لابد أن تتوافر فيه عدة شروط ومؤشرات وهي:
1- قيادة مؤهلة صاحبة رؤية استراتيجية وعلمية قادرة على إدارة الجامعة وعلى حل المشكلات والمعوقات التي تواجه العمل الجامعي على أصعدته المختلفة.
2- وضوح الرؤية التنموية للأستاذ الجامعي بحيث يكون مطالباً بوضع الخطط والبرامج التنموية التي تساهم في تحديث قطاعات المجتمع المحلي وتسهم في قيام هذه القطاعات بكل الوظائف البنائية المنوطة بها، بما يجعل المجتمع المحلي مجتمعاً ناهضاً يمكن الاعتماد عليه في إشباع احتياجاته دون أن يكون عبئاً على المجتمع ككل.
3- إشراك الطلاب مشاركة فعالة في مناقشة وحل مشكلات المجتمع المحلي «اعتماد لغة الحوار المنطقي».
4- تهيئة البيئة الأكاديمية التي تدفع للانضباط وتشجع على الإبداع المحلي «اعتماد لغة الحقوق والواجبات».
5- خدمة المجتمع المحلي وزيادة الوعي الاجتماعي بمشكلاته.
وفي الواقع لا يمكن للجامعة أن تقوم بدورها التنموي في حل مشكلات المجتمع المحلي ونهضته المتكاملة، مالم تقم هي بحل مشكلاتها ومعوقاتها الوظيفية. واتصور أن الجامعة يمكن أن تكون جامعة مؤثرة في أدوارها العلمية والتنموية، إذا استجابت من الداخل لشروط التغيير الإيجابية ومن ابرز وأهم هذه الشروط ما يلي:
الشرط الإداري ويقصد به أن تكون العملية الإدارية:
أ- سهلة وبسيطة ومفهومة.
ب- ألا تعيق الفكر الإداري الإيجابي للفرد.
ج- أن تستجيب للمتطلبات التنظيمية الداخلية.
د- أن تضع الفرد المناسب في المكان المناسب «وفق آلية شورية معتمدة».
والشرط الوظيفي ويقصد به أن تكون الأقسام العلمية داخل الجامعة ذات بنيان واضح وفعال على النحو التالي:
أ- إعادة الهيكلة العلمية للأقسام بما يفيد البحث العلمي الفعال.
ب- إعادة الهيكلة العلمية للأقسام بما يرتبط بمشكلات وتطلعات المجتمع المحلي. فلا نلغي تخصصات استجابة لمشكلات فنخلق مشكلات أخرى.
ج- إيجاد صيغة من التكامل والتساند بين الأقسام العلمية.
وكذلك الشرط المعلوماتي ويقصد به أن تكون الجامعة مستودعاً كبيراً للمعلومات التي يحتاجها كل عضو في مجتمع الجامعة وبالذات أعضاء هيئة التدريس والطلاب.
فالجامعة - في وضعها الجديد - لابد أن تحتوي على شبكة معلومات جديدة وقوية يمكن الاستعانة بها في وضوح الرؤية عن الاحتياجات العلمية للجامعة وكذلك الاحتياجات التنموية التي يحتاجها المجتمع المحلي.
ومن ثم فإن التغيير والتطوير في رسالة الجامعة لا يعني تغييراً في مركز إداري او وظيفي او مكاني، وإنما التغيير هو تفعيل لدور الجامعة ووصول رسالتها العلمية والتنموية إلى المجتمع المحلي والمجتمع العام ككل في ظل الظروف والمتغيرات الدولية التي تتطلب أن يكون للجامعة إسهام بارز في النهضة العلمية وحل المشكلات البيئية والمجتمعية بأساليب علمية ومهنية وأكاديمية عالية المستوى والكفاءة. فضلا عن التوسع في تعليم البنات وبالذات في الأقسام التربوية والاجتماعية. وكذلك الاهتمام بأعضاء هيئة التدريس من كافة الجوانب الإنسانية والمادية والمهنية بحيث تساهم الجامعة في ارتقاء استاذ الجامعة ورفع مهاراته وتشجيع ابتكاراته حتى يعطي عطاءً مثمراً للطلاب والجامعة والمجتمع معاً.
ولمناسبة الدمج والحديث عن النظر في المواد او التخصصات التي لا تخدم سوق العمل أشير الى الآتي:
لا أحد يختلف بأننا نتعلم الطب لكي نمارسه، ونتعلم الهندسة لكي نخطط مشروعاتنا، لكن السؤال الكبير الذي يهمنا هو لماذا نتعلم التاريخ «النظري!» لماذا نتعلم التوحيد «النظري!» لماذذا نتعلم الفقه «النظري!» لماذا نتعلم علم الاجتماع؟ لماذا نتعلم الإدارة.. الخ أليس للممارسة؟؟!. هل نمارس توحيد الله من غير مرجعية علمية تدلنا على صحة الممارسة وحقيقتها - أليست هذه هي رسالة مختلف جامعاتنا بل رسالة الدولة التي تعكس رسالة الإسلام؟!-، هل نقرأ أسباب مشكلاتنا «نظرياً» ولا نعمل على علاجها «عملياًَ»،.. الا نأخذ العظة والعبرة بأن نُقدِم او نُحجِم من التاريخ، الا نستلهم قدوتنا الحقة ونمارسها واقعياً من خلال امتثال شخصية المصطفى صلى الله عليه في حياتنا مع اسرتنا - على سبيل المثال - خيركم، خيركم لأهله وانا خيركم لاهلي».
.. إن الذي درس نظرياً هذا المعنى وخالفه وخالف غيره لا يعتبر في واقع الحال مطبقاً للمفهوم النظري لهذه العملية - وأصبحت عملية الكلام لديه ليست عملية - وهذا المنحى يصح في الأمرين سواء في الطب والهندسة أو التوحيد والعلوم الإدارية والإنسانية، فالذي لا يمارس مهنته على وجه الصواب فلا يعني انتسابه إليها صحة ذلك، وهذه الحقيقة يؤكدها الشرع والعقل في آن واحد.
إن الحقيقة العلمية تقول بأن «ليس هناك من ممارسة عملية في الواقع إلا من خلال أطر وتصورات «نظرية» تنطلق منها»، ولهذا فالأصل عدم الفصل، لأن الفصل يفقد كلاً من «النظر» والعمل معناه. ولذلك فهذا الهروب من العملية إلى النظرية هو تبرير للتكاسل وقعود عن القيام بالواجب واتهام للمادة التي لا تعني شيئاً اياً كانت من غير تفعيلها عملياً. إننا أمة «عملية» تتعلم لكي تعمل، فأنا ادرس الإدارة «نظرياً» حتى أصبح مديراً ناجحاً «عملياً» وأواصل هذا النجاح من خلال التدريب ومتابعة الجديد، وهكذا ادرس التربية حتى أعلم أصولها وأربي نفسي ومن تحت يدي من خلالها.
وهذا التنظير الخطير هو طرح فكري ربما يجد التسويق «العملي» له مستقبلاً خصوصاً مع المتغيرات العولمية «وموضة الإلكترونيات» إضافة إلى واقع البطالة الذي يضغط باتجاه خلق أسرع فرصة للعمل!!. وهذا الواقع في الحقيقة لم تشكله العلوم - المتهم البريء- إنما إشكالات تنموية لكل من مؤسسات القطاع العام والخاص وافراد المجتمع قسط من المسؤولية فيه. إن المشكلة في تصوري ليست في سوق العمل إنما في طالب العمل وفي السوق كيف يعمل!.
إننا كمجتمع مسلم - يحمل رسالة - في هذا الوقت الذي نعيشه أشد حاجة من ذي قبل لتدارس قضايانا التربوية وطرح مشكلاتنا الاجتماعية «غير النظرية» ومحاولة الخروج بأطر تصورية «عملية» لمغالبة الأفكار والأخطار التي تعددت قنواتها ووسائل نقلها اليوم.. إن توقيت انحدار الأمة من سلم رقيها هو ذلك التاريخ الذي غلبت فيه الفلسفة النظرية على الحقيقة العملية - للأفراد كما المواد - . وبمقدار ذلك الانفصال يكون الانحدار.
أتصور بأن إشكاليات كثيرة - بالإضافة إلى ما ذكر - خلقت مثل هذا التصور الخاطئ عند البعض - وآمل ألا يكون كثيراً - ومنها، كثرة العاطلين - كما يسمونهم - من خريجي العلوم المسماة بالنظرية - على خلافنا مع هذه التسمية اصلاً -، وهذا الإشكال في الحقيقة «حله» ليس في إلغاء تلك العلوم او دمجها - فلا تزال تدرس في الدول التي تعتز بثقافتها - وإنما الحل هو ضبط «القبول العشوائي والاستثنائي» لمثل هذه التخصصات المهمة.
ومنطق العقل يقول بأنه لو اتجهت هذه الأعداد لقسم الهندسة «العملية» او أحد الأقسام التطبيقية لوجدت بأن هذا التخصص أو ذاك بعد فترة وجيزة ممتلئ بالعاطلين، وهذه الحقيقة ليست من نسج الخيال، إنما يشهد لها واقع الدول العربية القريبة منا، مما جعل دخل المهني البسيط يفوق دخول مجموعة من الاساتذة - الدكاترة - خريجي الأقسام «العملية»!!!.
إذاً الإشكالية ليست في هذا التخصص او ذاك، إنما في إدارته واستقلالية قراراته وملامسة مناهجه للواقع. كما يتفرع عن هذه المشكلة ارتفاع اشتراطات القبول في الأقسام المسماة «علمية» فيقل فيها القبول ويكثر في الاخرى فيغيب الاتزان. المشكلة الأخرى التي كرست هذا المفهوم - الخاطئ - هي واقع القائمين على العلوم المسماة «النظرية» فالمادة التي يدرسونها هي أبعد ما تكون عن الواقع، ففي الفقه - على سبيل المثال لا الحصر - تدرس صور للبيع والشراء عفا عليها الزمن، بينما الناس بحاجة الى مناقشة صور للبيع جديدة ومستجدة وما أكثرها!، ولكن غيبة القائمين على المادة عن الساحة او تغييبهم عنها كرس مفهوم «النظرية على العملية».
ووجه آخر لمأساة هذه العلوم ايضاً هو من بعض طلابها حيث يتعلمون مالا يعلمون، فأصبح البناء العلمي والتربوي «نظرياً»، والهم - بكل أسف - مادياً «الوظيفية»!. وهنا فليست الإشكالية في المادة، بل في من يعلمها ويتعلمها!!! «أليس ذلك كذاك؟».إننا كمجتمع مسلم - يحمل رسالة - في هذا الوقت الذي نعيشه أشد حاجة من ذي قبل لتدارس قضايانا التربوية وطرح مشكلاتنا الاجتماعية «غير النظرية» ومحاولة الخروج بأطر تصورية «عملية» لمغالبة الأفكار والاخطار التي تعددت قنواتها ووسائل نقلها اليوم.
واستخلاصاً لما ذكر نقول بأن هذا الفصل «المتعسف» هو فصل للعلم عن حياته وفصل للحقيقة عن واقعها، وكل هذا مما لا يتناسب والعلم فضلاً عن أمة تحمل هم العمل المنتج والرسالة البناءة!.. وسوف تنبئكم الأيام «العملية لا النظرية» عن حقيقة ما أقول.. وأملنا أن تكون جامعاتنا الجديدة محاضن للتوفيق.. وبالله التوفيق.
*قسم الاجتماع القصيم
|