Saturday 18th october,2003 11342العدد السبت 22 ,شعبان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

المنشود المنشود
الطبق الَشرِّي!!
رقية الهويريني

تنادي سارة - الابنة الوسطى للسيد عوض- والدها وهو يهم بالخروج وتطلب منه إحضار طبق (جاتوه أو بقلاوة) من محل الحلويات المشهور بعمل هذا النوع من الحلوى! وها هي تشير لوالدها بلغة التحذير أن (لا يفشلها أمام زميلاتها! فينظر إليها ويعض شفتيه!!
والسيد (عوض) أحد المطحونين في هذا المجتمع، فهو يسكن منزلاً شعبياً متهالكاً، وله من البنات خمس يدرسن في مراحل التعليم المختلفة، إضافة إلى ابنته الصغرى ذات الخمس سنوات وسبعة شهور!
وهو حين يعض شفتيه فهو ممتعض! فالمنزل صغير وغرفه لا تكاد تكفي لأفراده، وكثيراً ما ظهرت الاحتجاجات من قبل ابنته الكبرى (نورة) وهي تطالب بغرفة اضافية لأن غرفة البنات المشتركة أصبحت تضيق بهن! وهي في مرحلة مهمة في دراستها وتحتاج للتركيز أثناء المذاكرة.
وامتعاض السيد (عوض) يأتي من قلة موارده، فهو موظف بسيط في إحدى الدوائر الحكومية وبالكاد راتبه يكفي- أحياناً- متطلبات أسرته، ويحرص كثيراً على اشباع احتياجات كل أفراد الأسرة عندما يستطيع! كما أنه يهتم بالأمور المعنوية فغالباً ما تجد (فطوم) ابنته الصغرى بغيتها في جيب والدها من حلوى زهيدة الثمن يستخدمها كإغراء لها على منحه قبلة المساء تطبعها على رأسه المثقل بالهموم فتنساب من وجهه ابتسامة الرضا ويحمد الله تعالى على هذه الذرية الصالحة، ويستحضر قوله صلى الله عليه وسلم «من عال جاريتين حتى تدركا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين وضم أصابعه» وتتوق نفسه الأبية لصحبة رسول الهدى عليه السلام في الآخرة حين لم تتسن له تلك الصحبة في الدنيا ويثني الشكر لله عز وجل أن بناته سليمات جسديا ونفسيا من أية عاهة، إلا أنه عندما يسمع همساتهن وضحكاتهن في غرفتهن تنساب من عينيه دمعة عجز! فقد كان يتمنى أن اوضاعه المادية أفضل لكي يحقق لهن ما تتوق نفوسهن إليه.
حين أخرج محفظته المهترئة أمام بائع الحلويات - المتورم دهوناً وسكريات من مخالطته الحلوى- سأل البائع عن أسعار بعض الأطباق وصورة (سارة) تتقافز أمام ناظريه، وسبابتها تلوح بها بالهواء محذرة إياه من عدم إحراجها عند زميلاتها!!
يد تمسك المحفظة والأخرى يشير بها نحو الأطباق..
(سارة) لدى مدرستها حفلة غداً والطبق «الخيري» ! من أولويات الحفلة.. لازالت أصابع يده تطبق بشدة على المحفظة، وتذكر أنه قام بتجزئة بعض النقود إلى مجموعات صغيرة وكتب على كل مجموعة بورقة صغيرة:
- قسط إيجار المنزل.
- قسط سلفة «أبو حمد».
- فواتير الماء والكهرباء.
- قيمة إصلاح مكيف غرفة البنات!
ووجد مجموعة ريالات لم تبلغ العشرة! وضع عليها ورقة صغيرة (حلوى فطوم) وانتهى توزيع راتب هذا الشهر! ووقع في حيرة!! هل ينتظر المؤجر إيجار المنزل للشهر القادم؟؟ أم ينتظر «أبو حمد» تسديد السلفة والتي طالما تم تأجيلها كثيراً؟! أم أن شركة الكهرباء، ومصلحة المياه ستعذرانه لو علمتا أن (سارة) لديها طبق خيري هذا الشهر؟! وحين وقع نظره على المبلغ المخصص لحلوى (فطوم) أحس بانقباض في صدره وطرد الفكرة نهائياً.
- آه ... إنه المكيف.. يمكن أن ينتظر إصلاحه شهراً أيضاً.. سيقوم بنقل مكيف غرفة نومه إلى غرفة البنات ويمكنه أن يتحمل حر (سهيل).. المهم ألا تحرج (سارة) أمام زميلاتها.. فتراه ينقل بصره بين الأطباق وصورتها لاتفتأ تسيطر على تفكيره..
- هذا النوع... وأشار إلى أحد الأطباق الفاخرة، ونقد المبلغ للبائع الذي قام بكل خفة بتغليف الطبق وهو يدعو له ولأسرته بالهناء والعافية عند أكله!! ولم يعلم أن آخر عهده به حين تحمله (سارة) معها وتتجه نحو المدرسة.
- تكررت الحفلات بمزيد من الأطباق بدعوى.. (الخير) حتى عمدت إحدى المعلمات إلى خصم 10 درجات من كل طالبة لا تحضر طبقاً (خيرياً) ثم استدركت المعلمة واكتفت بخمس درجات!! كل ذلك والتلميذات لا يعلمن مآل هذا الطبق أو قيمته بعد بيعه على الأمهات الذي يكون - أحيانا- بيعاً بأجل!! المهم أن يباع فلا يبقى لغد ويتعرض للتلف!! وكثير من الأمهات يشترين الطبق حرجاً أو تقليداً !! وقد يحدث أن تشتري الأم نفس الطبق الذي احضرته ابنتها هذا اليوم ولكن بزيادة في السعر!
ومع فرض حسن النوايا وسمو الهدف ومعرفة جهة الخير فالخير ليس طبقا، الخير مبدأ، لابد من تعليمه لأبنائنا، وللخير أبواب.. لابد أن يدخل من خلالها أبناؤنا مسلحين بعقيدة راسخة بأن المجتمع المثالي هو مجتمع إسلامي متكافل لا يجوعُ فيه الفقير، ولا يبطُر فيه الغني، مع الابتعاد عن الإلزام واعتماد السرية بحيث «لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
ومع التسليم التام بأن الطبق الخيري يعود ريعه لأصحاب الحاجة، فماذا تبقى للحرية الشخصية في دفع الصدقة للأقارب المحتاجين، والجيران المطحونين برحى المتطلبات الضرورية؟!!
لقد ضيق على الناس وأصبح الأمر يأخذ بعدا آخر هو المباهاة بين الطالبات بأفضل طبق، كما هي المباهاة بين المدارس بأكبر مبلغ محصل بل ممتص من دم وجهد الذين يتكففون الناس ولو كان بهم خصاصة!
*****
حين حل الشتاء بعد صيف لافح.. تنفس السيد (عوض) الصعداء، فلم يعد هناك حاجة لإصلاح المكيف ولكنه امتعض وعاد يعض شفتيه ويضغط على أسنانه فتحدث صريراً!!لقد عادت المدرسة بهمومها وطلباتها، وعاد الطبق الخيري يتبختر بين الطلبات!!
هذه السنة «ستة» أطباق خيرية.. «فطوم ستدخل المدرسة هذا العام»!!

ص.ب 260564 الرياض 11342

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved