Saturday 18th october,2003 11342العدد السبت 22 ,شعبان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

في ذكرى فاطمة في ذكرى فاطمة
عبد العزيز السماري

..لقد كانت الشمس قد آذنت للغروب، وهي تعكس أشعتها الذهبية على جدران قصر الحمراء في غرناطة، لتكسي جدرانه بصبغة حمراء خافته، تضفي عليها سحراً وجاذبية، وتعيد لمشاعر الزائرين العرب دفء الحنين لأزمنة المجد الضائع وأرض الوطن المفقود، وحين غربت الشمس في مدينة غرناطة، بالقرب من قصر الحمراء، كنّا نقف مثلما وقف أبو عبدالله عند تلك التلة الصغيرة التي تُشرف على وادي غرناطة المكتظ ببيوته البيضاء ليلقي نظرة وداع أخيرة على مدينته الحزينة التي يتوسطها قصره الشهير.. لتتداعى في أذهاننا فصول الروايات وكلمات ومعاني القصائد عن الأندلس أو الفردوس المفقود،.. تماماً مثلما عادت في ذهن أبي عبدالله، وهو يتمتم بكلمات الوداع، ذكريات الصبا وأيامه الجميلة التي قضاها في صالات وأروقة القصر وحدائقه الجميلة،.. لقد كان أبو عبدالله يعرف أن تلك الإطلالة سوف تكون الاخيرة، وأن تلك النظرة ستكون النهاية، إذ لم يكن يأمل أبداً بأن يرى مدينته ومسقط رأسه مرة أخرى..
وذهب أبو عبدالله وعاد التاريخ من جديد يحيي في أفئدتنا مشاعر الهزيمة التي تركها ذلك الأمير المهزوم لأجيال من العرب والمسلمين، ليشربوا مراراً في ذكراه من كأس هزيمته ومن مشارب سقوط بقية القبائل أو الطوائف التي مزقتها سيوف التنازع على السلطة، ومن مستنقع ذلك التشرذم والتشتت السياسي أو الإرث الذي قضى على المجد العربي في جزيرة أيبيريا، وسيقضي على ما بقي من أطلال عربية، إذا ظل شبح أبي عبد الله الصغير يعود كلما حانت لحظة من لحظات الانحسار والهزيمة.!
وعندما تطأ قدما عربي أراضي الجزيرة الإيبيرية، فإنه لا بد أن يشعر بذلك الشوق لمعرفة ماذا حدث في فصول ذلك التاريخ العربي والإسلامي الذي ساد لقرون ثم باد، فالأرض ومبانيها وأسماؤها ولغتها ومساجدها القديمة تحكي بحزن قصة الأمجاد التي توارت بعد هزيمتهم العسكرية على الأرض التي أسسوا عليها لقرون عديدة امبراطورية لم تغب عنها شمس المجد والعلم والخلود في تاريخ البشرية، ومهما طرحنا من أسباب ودراسات، إلا أن الحقيقة المؤلمة ستبقى شاهدة على العرب، فقد كانوا إحدى الأمم النادرة التي أضاعت وطنناً بنوه وعاشوا فيه عشرات من الاجيال لأكثر من سبعة قرون..!
وأرض أيبيريا تم تعميدها بالقوة بعد ذهاب قوة العرب وخسارتهم لأسباب النصر والمجد، وقصة «تعميد» ملايين البشر والأراضي العربية تحكيها بحزن رمزية أسطورة فاطمة في البرتغال، وفاطمة قرية تقع في شبه جزيرة (فيبري) بالقرب من مدينة لشبونة في البرتغال، وتعد في الزمن الحاضر إحدى أهم الكنائس التي يزورها البابا تعظيماً لقدرها وتقديساً لروح السيدة فاطمة، ويحج إليها عشرات الآلاف سنوياً طلباً للصفح والغفران.....
ويلفت كثيراً اسمها «العربي» انتباه السائح إلى تلك البلاد، ففاطمة اسم بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، واسم كنيسة ومزار مقدس عندالمسيحيين الكاثوليك،.. وارتباط الكنيسة والقرية باسم فاطمة يثير فضول الزائر، ويدفعه إلى إثارة علامات الأسئلة، ومحاولة قراءة ما بين سطور تلك الرواية التي ينسجها مرشدو السياحة البرتغالية، والبحث عن حقيقة تفاصيل تلك الأسطورة التي يتداولون فصولها في لشبونة، والتي تحكي قصة.. حدثت لفتاة عربية مسلمة في القرن الثاني عشر ميلادي بعد سقوط البرتغال، وبعد خروج القوات المسلمة منهزمة أمام المد الكاثولوكي من الشمال، والرواية تتحدث عن حب وغرام وقع بين تلك الفتاة المسلمة وبين جندي مسيحي، كان اختلاف ديانتهما مانعاً ضد زواجهما بالطريقة الكاثولوكية، ويحكي رواة الأسطورة القديمة أن الفتاة كان عليها أن تعتنق المسيحية، وأن يتم «تعميدها» لكي تتمكن من الزواج من «الجندي» المسيحي القادم من الشمال، وهو ماحدث حسب الراوية البرتغالية، ولم يستمر الزواج طويلاً إذ «ماتت» الفتاة بعد مرور سنة بعد اقترانها بالجندي المنتصر على قومها العرب، ولم تنجب أبناءً،.. ولم تنته الاسطورة البرتغالية عند موت فاطمة، ولكن الراوي أضاف لمسة مقدسة على أهم تفاصيلها، بدأت حين أكد أن سكان القرية ظهرت لهم مريم عليها السلام بالقرب من قبر السيدة فاطمة، وكان ظهور السيدة العذراء عند قبر فاطمة بعد مرور قرون على دفنها تمجيداً لذكراها، وبمثابة المباركة الإلهية المقدسة لشرعية الاحتفال سنوياً بنجاح تعميد «فاطمة» العربية أو الأرض العربية، ومن ذلك اليوم أضحت فاطمة قديسة، يُزار قبرها، ويحج إليها الكاثوليك من كل مكان..
وتعتبر ليلة الثالث عشر من مايو يوم ظهور مريم العذراء من كلّ عام ليلة الدعاء المهمة في مزار فاطمة، إذ ينبغي وفقاً لوصية السيدة صاحبة القبر، قضاؤها بالدعاء والتسبيح والاستغفار من الماضي !
وحادثة تعميد السيدة فاطمة ثم ادعاء مشاهدة العذراء ترك أثراً عميقاً في حياة الناس في البرتغال، ليصبح فيما بعد واحداً من أهم معتقداتهم وتصوراتهم الدينية، وفاطمة لم تكن في تلك الرواية إلا رمزاً لتعميد الأرض العربية، ولتنصير السكان المسلمين أو تهجيرهم عبر قرون من الاضطهاد ومحاكم التفتيش ...
لقد كان سقوط البرتغال في القرن الثاني عشر ميلادي، حلقة أولى في مسلسل هزائم العرب في التاريخ ، فقد تم تراجعهم وانحسارهم بعد ضربات من الهزائم المتوالية، والتي لم يتوقف رحاها إلى اليوم، وقصة «تعميد» العرب لا تزال مستمرة، وإن اتخذت وسائل أكثر تطوراً، وظهرت في صور أكثر تعقيداً من الطرق البدائية، فالحرب الاقتصادية إحدى وجوه التعميد الحديث، والتغريب الثقافي غزوة أخرى من الشمال، وحظر التقنية وإذلال القرار السياسي، وتحجيم القدرات العسكرية وسرقة العقول العربية أهداف يسعون دوماً لتحقيقها، والمؤلم في فصول هذه الرواية المحزنة، .. أن واقع التخلف العربي واستبداده أحد أهم أسلحة الغزاة التي ستقضي على مابقي من مجد على الأرض العربية.. قد تثير هذه الخواطر أحداً ما، ثم يرميها بسهام نظرية «المؤامرة» وإثارة الكراهية للآخر، لكنها بالتأكيد ليست كذلك، فالتاريخ الإنساني علمنا أن اختلال موازين القوة يسحق الآخر المستضعف، وينهي خصوصيته، وتفرض دوماً غطرسة القوة هيمنتها على إرادة الضعيف، فتسرق منه ثرواته وتبتز عقوله، ثم تجعل منه كائناً ضعيفاً غير قادر على الحركة أو الدفاع عن حقوقه ومكتسباته وأراضيه، .. تلك سنة التاريخ..
قد نختلف في كيف ندافع عن أوطاننا وهويتنا الثقافية، لكن يجب أن يبقى اختلافنا محموداً ومشروعاً من أجل وطن وأمة لا تهزها رياح الامم الغازية، ولعل إحدى أهم الحلول المجدية في ظل النظام العالمي الجديد هو فتح المجال للفعاليات المدنية والشعبية غير الحكومية للمشاركة في مشاريع التنمية، والعمل من أجل الحفاظ على الهوية، وإذا لم تتحرك الأمة والمجتمع والأرض للدفاع عن هويتها وتاريخها وثرواتها وثقافتها، سنتحول مع مرور الزمن إلى مزار مقدس للغزاة كفاطمة في البرتغال بعد أن تم تعميدها، أو كآثار سياحية في متاحف الهنود الحمر في أمريكا، أو مجرد رفات هياكل عظمية في مقابر سكان أستراليا الأصليين ..

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved