Thursday 16th october,2003 11340العدد الخميس 20 ,شعبان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

العقول اليتيمة العقول اليتيمة
د. موسى بن عيسى العويس / الإدارة العامة للتربية والتعليم بمنطقة الرياض

مجالات الإبداع متعددة أمام أرباب المواهب، في الفن، والعلم، والأدب. وكم من شخصية موهوبة غمرت، خاض الإنسان في آثارها محللاً ومتأملاً فشدته من حيث لا يقصد إلى الحديث عن سواها من سائر الشخصيات أو الموضوعات، التي قد يحس القارئ لها ابتداء بشيء من عدم الارتباط، لكنه إحساس وقتي أجزم بتلاشيه، متى كانت لديه قوة الإدراك، والمقدرة على الربط والاستنتاج، ذلك هو شأني في هذا المقال مع أبيات للشاعر «عبدالرحمن شكري»، عبر فيها عن توقه الشديد إلى معرفة المجهول، في الكون، والحياة، فجاءت مترجمة في ألفاظها، وصورها، ومعانيها عن تشتت فكري، وقلق نفسي، واضطراب وجداني عنده، ربما لأنه لم يجد من يجيب على تساؤلاته العريضة في محيطه، يقول فيها:


يحوطني منك بحرٌ لست أعرفه
ومهمةٌ لست أدري ما أقاصيه
أقضي حياتي بنفسٍ لست أعرفها
وحولي الكون لم تدرك مجاليه
ياليت لي نظرة بالغيب تسعدني
لعل فيه ضياء الحق تبديه
أوليت لي خطوةً تدحو مجاهله
وتكشف السرّ عن خافي مساعيه
قلبي يحدثني ألا يليق به
رضاً بجهلٍ ذليل اللب يرضيه
قد ثار ثائر نفسٍ عزّ مطلبها
وطار طائر لب في مراقيه
كالنسر لا حاجب للشمس يحرقه
ولا الصواعق والأرواح تثنيه
فليت لي فكرة كالكون واسعةٌ
أدحو بها الكون تبدو لي خوافيه
ليس الطموح إلى المجهول من سفهٍ
ولا السمو إلى حقٍ بمكروه
إن لم أنل منه ما أروي الغليل به
قد يحمد المرء مما ليس يرويه
والقانعون بما قد دان عيشهم
موتى فإن خضوع اللب يرديه

إلى أن يقول:


لعلّ خاطر فكرٍ طارقي عرضاً
يدنو بما أنا طول العمر أبغيه
يوضح الغامض المستور عن فطنٍ
وأفهم العيش تستهوي بواديه

وما أشبه هذا بغيره من أصحاب المواهب، ممن عاشوا تجربة الاغتراب الفكري، فأمسوا قلقين في مجتمعاتهم، تواقين للكشف عن المخبوء الذي لم يسع للكشف عنه سائر الناس، فاستحقوا وصفهم باليتم من بين أقرانهم.
نعم الأيتام في نظري هم أولئك النوابغ والأذكياء والموهوبون والعباقرة، أياً كان اتجاههم، والذين لفظتهم بيئاتهم الأصلية، سواءً كانوا صغاراً أم كباراً، ذكوراً أم إناثاً. باتت هذه الفئة المنكوبة - إن صح لي التعبير - تشعر أنه لا وطن لهم يظلهم، ولا أمة ترعاهم، ولا ثقافة تحتويهم، فجدوا في البحث عن بيئات أخرى أكثر حرية ورحابة، وأمناً واستقراراً لاستيعاب مواهبهم، ومجالات نبوغهم، ومن هنا كانت ظاهرة الهجرة، أو ما يسمى «نزيف الأدمغة»، وأصبحت بعض الدول ومجتمعات العالم الثالث، كما تسمى، تعاني هذه الظاهرة، حين افتقدت من جرائها أغلى الثروات وأنفسها والتي استثمرها غيرهم، وربما كانوا من أعدائهم، لكن هذه الدول اختلفت في التعبير عن موقفها حيالهم، فثمة دول أو أنظمة رأت في نزوحهم الخلاص من عبقريات ظلت هاجسهم، حيث عدوها قنابل موقوتة في مجتمعاتهم ينبغي التخلص منها، بصرف النظر عن أثر فقدهم، ودول أخرى منها المملكة العربية السعودية التفتت إلى هذه الأدمغة، وجدت القيادة إلى إجراء الدراسات التي تمخضت عنها إنشاء «مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله لرعاية الموهوبين»، فشكلت لها المجالس الإدارية، والمصادر التمويلية الضخمة، وتحملت وزارة التربية والتعليم العبء الأكبر من استثمار المشروع، وليس من شأني هنا التساؤل عما قامت به الجهات المسؤولة عنه، وضعف أو قوة أثر هذا المشروع في الميدان، إذ ربما كانت برامج هذا المشروع، ومجالات تطبيقه متنوعة، وأهدافه بعيدة المدى تخفى على الكاتب، فيكون خوضه فيه خوض الجاهل.
الشيء الذي نأمله ونرجوه أن يكون لأرباب المواهب والذكاء والنبوغ في بلدان العالم العربي والإسلامي مناخات حرة، ومجتمعات مدركة تعزز النبوغ وتقوية، وتستثمره وتغذيه، فتزدهي هذه العقول وتثمر، حينما تزداد من محيطها همة ونشاطاً، وأملاً وإقداماً، وحينئذٍ يتعاظم الإنتاج، وتنتشر رسالة الأمة. أما العبقريات التي ليس لها وطن ولا أمة قتضيع وتضمحل، وعالم النوابغ على وجه الخصوص عالمٌ مرهف الحس، دقيق الشعور، فإن أعقناه في ارتقاء سلم العلوم والمعارف، أو بالغنا في تقييده بالقوانين، وحددنا من حريته بالبحث، والفكر، والقول، والعمل كان مصيره الانكمناش والتلاشي.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved