Tuesday 14th october,2003 11338العدد الثلاثاء 18 ,شعبان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

إدوارد سعيد: طفل الرابعة إدوارد سعيد: طفل الرابعة
أنور عبدالمجيد الجبرتي

نشرت جريدة الحياة صورة للدكتور إدوارد سعيد، وهو في الرابعة من عمره، كان واقفاً على كرسي يرتدي قميصاً نصف كم، وبنطلونا قصيراً، رافعاً كلتا يديه إلى أعلى، وأمامه على الطاولة مجلة مفتوحة ومقلوبة، الشعر أسودٌ كثيف والعينان سوداوتان مبتهجتان، مستثارتان، والوجه طازج، ناعم، نظيف.
* لكن الصورة في أعلى الصفة نفسها كانت صورة حديثة لإدوارد سعيد، في منتصف الستينات من عمره، يتخلل الشيب مفارق شعره وجوانبه، ولحية كثيفة شبه بيضاء تغطي وجهه، وعينان مجهدتان لكنهما تحتفظان بالبريق القديم، وأنف نفخ الزمان منخريه، وسُمرة تلفح محيّاه من بقايا مشوار طويل.
* ماذا حدث لنا بين الرابعة والخامسة والستين؟
وماذا يبقى فينا وماذا يرحل ويزول؟ وكيف يتسنّى لنا أن نعرف ذلك في أنفسنا، ونتعرف عليه في الآخرين؟
* يدا إدوارد سعيد المرفوعتان إلى أعلى في الرابعة من عمره تذكرني بالمحاضر الزائر الذي ظهر في جامعة «أوريجون» الأمريكية في منتصف السبعينات عندما كان إدوارد سعيد في الثلاثينات من عمره. كان يرفع يديه بنفس الطريقة، ويبدو مندهشاً، ومسرحياً، ولاعباً، ومستثاراً، استثارة الطفل إذ يجد الموضوع المفاجئ في سحارة قديمة، أو تحت سرير، أو في ثقب حائط.
* لكننا لا نخدع أنفسنا عندما نغفل ان ستين عاماً قد مرت على طفل الرابعة، أو أن الطفل الصغير قد سافر ستين عاماً، وتسلق آلاف الكراسي وقرأ أسفاراً ضخمة بعضها مقلوب شكلاً أو مضموناً وقابل أحداثاً أثارت في وجهه غباراً، وحفرت في أعماقه أحزاناً، وضاجع أفكاراً أحدثت في وجهه بثوراً، وكتبت على جبهته تجاعيد، وقابل أشخاصاً، وغادر آخرين، تركوا في قلبه آلاماً وتباريح وبكاءً شديداً.
* نحن نحاول فقط أن نسأل ماذا خنقت تلك التراكمات وماذا أبقت؟ وهل نستطيع ان نبصر تحت كل ذلك الركام الستّيني الهائل، حذوة طفل الرابعة؟
* في «خارج المكان» يحاول إدوارد سعيد ان يسأل هذه الأسئلة كشخص يحتفي بالأسئلة الجيدة، ويسعى جاهداً ان يتبع خطوات ذلك الطفل في رحلته الطويلة التي بدأت من البيت الفلسطيني المقدسي الناعس، حتى «مانهاتن» المائجة» ثم عودة إلى فلسطين الجديدة المضطهدة الحائرة، اللاجئة، المحتلة من «خارج المكان» ينظر إدوارد سعيد إلى «المكان» ويسأل عن «الزمان»، ويستفسر عن طفل الرابعة راحلاً ومتجوّلاً وعائداً إلى الأماكن القديمة والأزمنة القديمة، والأشخاص القدامى، والبراءة القديمة.
* كتب إدوارد سعيد كتابه «خارج المكان» بعد ان علم انه مصاب ب«اللوكيميا» من النوع القاتل، والخطير، وان الوقت قد لا يسعفه في رحلة الذهاب للقاء طفل الرابعة، والعودة منها، لذلك يلمس القارئ في الكتاب أنفاساً متهدجة، ساخنة، و«اعترافات» بريئة صادقة مؤثرة وخطواً حثيثاً ونشاطاً مندهشاً للبحث في كل «السحّارات»، وأماكن الاختفاء الطفولية، ودفاتر المدرسة العتيقة، وجيوب البنطلون القصير، وزوايا البيت الفلسطيني الذي لم يعد موجوداً ومحطات الرحلة الطويلة التي تغيرت معالمها، والمدرسة التي قضت، والأصدقاء الذين رحلوا، والرومانسيات التي تآكلت، وكل الأشياء الكثيرة الصغيرة والكبيرة، التي تمتلئ بها حقائبنا بين الرابعة والخامسة والستين.
* كتابات إدوارد سعيد خلال العقد الأخير من حياته كانت كتابات في الزمن الإضافي بحثاً، وعودة إلى طفل الرابعة. حتى السياسي النقدي العنيف منها كانت محاولة إنسانية وجودية لاهثة للتخلص من التراكمات التي يحملها الرجال، السياسيون، الستينيون عندما ينخرطون في المساومات البائسة ويتنافسون عن الحطام الزائل، ويبيعون المبادئ الغالية، ويخدعون بالأهداف الزائفة والمتع الرخيصة، ويضطهدون في أعماقهم طفل الرابعة، البريء، الطازج، النظيف.
هل وجد إدوارد سعيد طفل الرابعة من جديد ؟.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved