المفكر الفرنسي (تيري ميسان) في كتابه (الخدعة الكبرى) قال: إن أمريكا هي التي صنعت اللعبة الكبرى، وهدّمت برجيها، وضربت (بنتاجونها)، هذا لون من القراءات والتصورات للأحداث الجسام، والمشتغلون بتفكيك الوقوعات السياسية لايستغربون مثل هذه القراءة غير المبررة، وصناع القرارات المصيرية قد يرون ما يراه مثل أولئك القراء المغربون، فيكون الفعل الشاذ شذوذ الهوج القرائي وبالقراءة والفعل الشاذين تقع الكوارث. ولا مراء في أن أي ممارسة لا تستند إلى مشروعية ولا إلى معقولية تكون تربة خصبة لتناسل الآراء والتصورات الشاذة. والحروب التأديبية أو الوقائية أو الاستباقية والتدخلات القسرية في شؤون الغير محفزات لممارسة القول الخرافي، وتجليات القطب الواحد تتسع للقول ونقيضه، لأنه تلون حرباوي تحكمه المصالح، ولا تصرفه المبادئ. والضربات المفصلية مظنة الفرضيات الغريبة، والحديث المتناقض عن الأحداث الكبرى يظل في نماء وتشعب، حتى يخرج من الواقعية إلى الخرافة ومنها إلى الأسطورة، ويكون الفعل المترتب عليه اسطورياً.
وتداعيات الحادي عشر من سبتمبر بدأت تتجه صوب المستحيل وغير الممكن، ومثل هذه القراءات التخرصية عن تلك الأحداث قالها غربيون، ولو قالها غيرهم لم نشر إليها، ومن حقنا أن تكون لنا قراءتنا مثلما لغيرنا قراءته. والإشكالية ليست في تعدد القراءات، وإنما هي في ترتيب الحلول على تناقضاتها، وليس من قال: إن أمريكا هي التي هدمت أبراجها بأغرب ممن قال: إن المناهج الدراسية والحركات الإصلاحية في المملكة هي صانعة الإرهاب، ولو أذعنت المملكة لمثل هذه القراءات وغيرت مناهجها وأدانت دعوتها الإصلاحية لكانت الطامة الكبرى. وضرب أمريكا في الصميم مظنة التخرصات، ولاسيما أن الفاعل الحقيقي لما يزل في ظهر الغيب، وحين لايكون ماثلا للعيان يكون من حقنا ان نفكر، وأن نقدر وفق إرادتنا، ولو على سبيل الرياضة الفكرية، وقد نخطئ من حيث التفكير والتقدير، وإذ تكون السياسة عصية الانقياد فإن كل شيء فيها قابل للقراءة عبر كل المستويات، وكل مخرجاتها قابلة للتأويل، والقواصم في تحفيز القراءة الغرائبية للفعل المصيري، والعواصم في السبر والجس والاستواء على أرضية الحقائق.
وكل إنسان مغرم بالتفكير والتساؤل، ومن ثم قيل: - (فكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله). وإذا ارتاب الناس بالمغيبات، وأباحوا لأنفسهم الخوض في كل شيء، فهم مع عالم الشهادة أشد ارتياباً وتساؤلاً. وقد تستدرج الرغبة المستخفين لقومهم فتتجاوز بهم المجال الممكن إلى غير الممكن، ومن ثم تكون الهواجس إشاعات، وتتحول الإشاعات إلى رواسب فكرية، ينعكس أثرها على تصرفات الآخرين، و(حرية التفكير) تختلف عن (حرية التعبير)، فالإسلام منح الإنسان حرية التفكير المطلقة، ولكنه نصحه بعدم القفو لما ليس له به علم، ولما لا طائل تحته من فضول الأشياء، فيما قيده في مجال التعبير {مّا يّلًفٌظٍ مٌن قّوًلُ إلاَّ لّدّيًهٌ رّقٌيبِ عّتٌيدِ} {إلّيًهٌ يّصًعّدٍ الكّلٌمٍ الطَّيٌَبٍ} {وّقٍولٍوا قّوًلاْ سّدٌيدْا} {لا يٍحٌبٍَ اللّهٍ الجّهًرّ بٌالسٍَوءٌ مٌنّ القّوًلٌ} {وّهٍدٍوا إلّى الطّيٌَبٌ مٌنّ القّوًلٌ}. والمتابع لفيوض القنوات، ومستقر المعلومات، وما خط في الصحف والمجلات يصاب بالذهول والارتباك والارتياب، إذ يسمع أو يقرأ أو يقف على تصورات في غاية الشذوذ، وبالتالي تربكه أفعال في غاية الغرابة، والذين يأتون بالإفك، والذين يتقبلونه بقبول حسن، والذين يرتبون أفعالهم على ضوئه، يقترفون الأخطاء الفادحة، ويحملون الأبرياء جرائر لا قبل لهم باحتمالها، وما العمليات الانتحارية والإرهاب المنظم إلا ناتج قراءة خاطئة أضلت من أضلت، حتى جاد المنتحر بأغلى ما يملك، لتفقد أمته أغلى ما تملك، وهو الأمن والاستقرار.
وحين تكون الآراء والتصورات وقراءة الأحداث شاذة أو متناقضة، يصبح المتابع فريسة للأوهام والتخرصات، وحين لايستقر الإنسان على رأي حصيف ممحص يكون المجال مهيأ للمفسدين والانتهازيين وأصحاب الأهواء، بحيث يستزلون المترددين، فلا يجدون بدا من طاعتهم والوقوع في حبائلهم. وأخطر المشاكل مشكلة المفاهيم واختلافاتهم والتأويلات وتعددها، وما احترب الناس إلا حين اختلفت مفاهيمهم، وما نسلت الملل والنحل إلا من عباءة التلقي، والمفكرون يتصدون للأفكار ومصادرها، ويستخفون بآلية التلقي والتأويل، وإشكالية الحضارات في تعدد (نظريات المعرفة) و(نظريات التلقي) و(آليات التأويل). والحياة تتناسل فيها المشاكل بمثل ما تتناسل المقومات، والصراع أكسير الحياة، والوفاق حلم الطيباويين، والإشكالية ليست في الاختلافات المتنامية، إذ قيامها حتم، ولكنها في أسلوب المواجهة وطرق الحل. والذين يريدون الحياة ملائكية خالية من أي منغص يضربون في فجاج التيه. والدول الكبرى ذات الأيدي الطويلة والقوة الرادعة حين تتخطى القول إلى الفعل، ثم تمنى بإخفاق ذريع لا يحال ذلك إلى ضعف قوتها، وإنما يحال إلى خطأ قراءتها للأحداث وترتيب المواجهة على ضوء مستخلصات القراءة، وأمريكا لم تهزم عسكرياتً في (كوريا) ولا في (فيتنام) ولا في (الصومال) وإنما أخطأت التقدير والتوقيت، بسبب خطأ القراءة، وأحسبها وقعت في الخطأ ذاته في (أفغانستان) و(العراق) وفي تصدرها لرعاية السلام بين العرب واسرائيل، وفي فهمها الخاطئ لمصادر الإرهاب، والمنطقة مقبلة على شر مستطير ما لم يعد الجميع قراءة الأحداث والمصائر بعقولهم لا بعواطفهم.
إن الحصافة ان تضع الدول والجماعات والأفراد في حساباتهم تكاثر المشاكل وتناميها، وتعدد القراءات وتناقضها، لكيلا يكون المستضعفون دولة بين الأقوياء، فكل من توقع شيئاً هيأ نفسه لمواجهته، وحين يكون الاستعداد وتعدد خيارات المواجهة، تكون مؤشرات النجاة أكثر، واحتمالات التغلب أقوى، والذين لايمتلكون بوابات توقف العابرين وتساؤلهم عن الرؤى والتصورات تفيض أوعيتهم بالخداع والتضليل.
لقد سمعنا من المؤسسات الغربية تباكياً على (حقوق الإنسان)، ومجت أسماعنا ما يتداولونه من لغط حول انتهاكات الحقوق من المؤسسات السياسية، وحسناً ما يفعلون. فكم من حكومات ظالمة تحتاج إلى من يعينها على نفسها، وكم من فئات مضطهدة لايرفع عنها الظلم إلا التصدي للسلطات الظالمة وكشف سوءاتها، وجميل موقف الدول الكبرى لو أنها لم تكن انتقائية ولا مصلحية، ولو أنهم قرؤوا الواقع بعيون ثاقبة ونوايا حسنة ومقاصد سليمة. غير أنهم حين يريدون استغلال أي نظام يدعون تحرقهم على (دستوريته) و(برلمانيته) وتداولية السلطة فيه، وحين يكون قوياً عادلاً أو دستورياً برلمانياً، ثم لايكون في ركابهم، لايمانعون من افتراء الكذب، والعمل على اسقاطه بأي حجة، ولا يترددون في المبادرة إلى طرح ملفات نائمة: ملفات (حقوق الإنسان)، و(الأقليات) العرقية والدينية، وملفات (الحدود)، و(المعارضة)، و(قضايا المرأة) والسكان والأرض والاقتصاد والتلوث وسقف الانتاج والسعر، وسائر متطلبات العولمة المتأمركة. وحين لايجدون ملفات حقيقة بالفتح يخلقون من الحبة قبة، أو يفتعلون قضايا لم تكن معروفة من قبل. والشارع العربي المحتقن يصيخ لكل قول، ويصدق كل ادعاء، فهو من السماعين للاتهامات والناقلين للإشاعات، وحكومات العالم الثالث مظنة أي اتهام، فهي كالأجسام القابلة للجراثيم و(الفيروسات).
وإذ لا ننكر المظالم ولا (الدكتاتوريات) ولا المقابر الجماعية ولا السجون والتشريد وكبت الحريات فإننا نود أن يكون الغرب صادقاً في إثارتها، موثقاً للتجاوزات، منصفاً في المواجهة. بحيث لا يتستر على مظالم، فيما يشيع أخرى لمجرد التخويف أو التركيع، وبحيث لايدس أنفه في قضايا شعب آمن متصالح مع حكومته. وكيف يستقيم أمر العالم والمتكبرون والمتجبرون يصنعون (الأيديولوجيات) كما يصنعون السيارات؟ ويريدون أن يكون تصدير الفكر والآلة بمستوى واحد وقبول واحد.
لقد شهد العالم فظائع (إسرائيل) ولم نر ولم نسمع إلا (الفيتو) عند إثارة المظالم وإلا التسليح والمساعدات والتأييد عند اتخاذ القرارات التي تحق الباطل وتبطل الحق. وفي ظل التطاول والتعدي فكرت بعض دول المنطقة في التزود من قوة الردع غير التقليدية، فما كان من الغرب المحكم قبضته إلا أن عرقل مشروعها، بدعوى حفظ التوازن، ومع أننا ضد التسليح النووي إلا أن الغرب يغض الطرف عمن يريد تسلحه، ويضيق الحصار على من لايريد، وقد مارس ضرب المفاعلات النووية، حتى وان كانت للأغراض السلمية.
والنخب العربية مع وضوح الانحياز وتجلي التجني يختلفون فيما بينهم، والاختلاف حول المعلوم من السياسة بالضرورة مؤشر تخلف أو مواطأة، ولو ضربنا المثل بظواهر في منتهى الحساسية لتبدت لنا ثغرات في الفكر النخبوي الذي لايحسن القراءة، ولا يتصرف حين يُهدى إلى الحق. فالإرهاب العشوائي الدموي يمارس من قبل الصهيونية على أرض فلسطين، ويمارس في مواقع عدة من العالم، وقراءة الممارستين تختلفان حدة ومواجهة، وما من قارئ رشيد يربط بينهما، بحيث تكون ردود الفعل متجانسة، وما كانت (إسرائيل) في وضع من العلاقات الحميمة مثلما هي عليه الآن، فالاعتراف والتطبيع والتبادل التجاري العربي الإسرائيلي يتقدم خطوات إلى الأمام، فيما تتعقد القضية الفلسطينية، فهل هذا ناتج قراءة مضللة أم أنه مواطأة متعمدة؟.
ومع الانتهاكات البشعة فإننا لا نسمع أي كلمة منصفة بل نجد من يبرر فعل اليهود بالمواطنين الفلسطينيين العزل، ويحيل الإرهاب الإسرائيلي إلى الدفاع عن النفس، ويحيل المقاومة الفلسطينية إلى الإرهاب، والناس في حيرة من أمرهم. فأمريكا حين تتزعم العالم ثم تكيل بعدة مكاييل تفقد مصداقيتها واحترامها والتعاون معها، ومع كرهنا لكل عمل غير إنساني نود من دولة قوية كأمريكا ان تكون عادلة منصفة، يذعن لها الجميع رغبة لا رهبة. والرغبة لا تتحق إلا بالعدل والانصاف والمساواة، والرهبة تفرضها قوة السلاح، ولكن ثمن الإرهاب باهظ التكاليف، وزمنه قصير. فالظلم ظلمات، والله أقسم على نصر المظلوم ولو بعد حين، والدولة الظالمة مصيرها للدمار، مسلمة كانت أو كافرة، لأن الظالم مؤسف لله، والله حين يأسف ينتقم، قال تعالى: {فّلّمَّا آسّفٍونّا \نتّقّمًنّا مٌنًهٍمً} والتخطي بالحلول من (الدبلوماسية) الفاضلة إلى القوة القهرية المفضولة بوادر ظلم، تعرض الظالم لعقاب ممن حرم الظلم على نفسه. وليس ببعيد أن تكون المبادرة العسكرية ناتج قراءة خاطئة أو مخادعة. ودول التحالف حين وقعت في المستنقع، بدأ الضالعون في القراءات الخاطئة يحيلون إلى ما بلغهم من الاستخبارات من تقارير حرفت فيها الحقائق، فوقع القارئ في فخاخها، وما انتحار (كيلي) واستدعاء الأطراف الضالعين للإدلاء بشهاداتهم إلا مؤشر تقدير وتوقيت خاطئين، وكل حدث يرد إلى قراءته.
والحل العسكري الذي بادر إليه الأقوياء ما كان له أن يسبق الحلول السلمية، فهو حين لايحقق النتائج المطلوبة يبدأ العد التنازلي لمستخدمه، وأمريكا اختارت الحل العسكري على سائر الحلول، وهي إذ تركن إلى قوتها العسكرية، وتفرض القرارات بقوة السلاح يتحول العالم إلى عدو متربص، قد يذعن لهدير المدافع وقصف الراجمات، ولكنه سينسل من تحت غبار الهدميات، كما نسل (اليابانيون) من تحت الإشعاع النووي، واختاروا الحرب الاقتصادية فهزم الغرب كله. واهتياج أمريكا وإقدامها على مغامرات محفوفة بالمخاطر قد تكون مدفوعة بالقراءة الخاطئة أو بالكتابة المحرفة، وكم من زعامات تشظت بسبب الخطأ في قراءة الأحداث أو القراءة عنها.
والنكسات الموجعة التي يتعرض لها العالم العربي والإسلامي سيكون لها أثرها الايجابي، متى أحسن المتضررون تغيير ما في أنفسهم، ولا أستبعد صحوة تجعل الإنسان العربي يفكر في مصيره وموقعه. وحين تمل أمريكا من حرق الأرض وكسر الظهر، تعود لتقويم النتائج والتفكير في الحلول السلمية، وساعتها يكون الإنسان العربي قد جرب القتل العشوائي، وقدم الضحايا المجانيين، وتحول من مسالم إلى مقاتل، ومن مصالح إلى منابذ، وأدرك أنه بحاجة إلى ان يبدأ التفكير الجاد لإقامة أنظمة دستورية ومجالس تشريعية وعمل جاد لمواجهة الحياة بكل ما تغص به من مشاكل.
إن الأزمات تخلق الحلول، وما من أزمة خانقة إلا وتؤدي إلى فضاءات رحبة. المهم ان يعي الإنسان العربي أنه رهين عمله وتفكيره فليكن جاداً وحاداً، جاداً في العمل حاداً في التفكير. ومتى علم الله منه حسن النوايا وسلامة المقاصد والأوبة النصوح سهل له طريق الرشاد. {وّتٌلًكّ الأّيَّامٍ نٍدّاوٌلٍهّا بّيًنّ النّاسٌ}. وقانون التداول والتدافع نافذ، ولا عمارة للكون إلا بالصراع فهو أكسير الحياة، ومتى أمن الإنسان وشبع استرخى، وإذا خاف وجاع فكر في طريق الأمن وطريق الشبع، والحاجة أم الاختراع.
|