إن سياسة الاستيطان الاسرائيلي المتصاعد في الأراضي الفلسطينية في الضفة والقطاع والقدس الشرقية منذ الاحتلال الاسرائيلي في العام 1967م والى اليوم، يمثل التعبير العملي عن رفض اسرائيل لممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير المصير واقامة دولته المستقلة، وخرقاً واضحا وفاضحا للقانون الدولي.
إن تصاعد الاستيطان الاسرائيلي منذ اتفاق أسلو في سبتمبر/1993م يدل على عزم اسرائيل المستمر على ابقاء سيطرتها وسيادتها الفعلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث يقطن اليوم أكثر من 000 ،400 مستوطن اسرائيلي فيما يزيد على مائتي مستوطنة أنشئت منذ سنة 1967م والى الآن، نصف هذا العدد من المستوطنين في مواقع استيطانية في القدس الشرقية ومحيطها، ونصفه الباقي في أنحاء الضفة الغربية موزع على أكثر من 180 مستوطنة يضاف الى ذلك ما يقرب من عشرة آلاف مستوطن يعيشون في البؤر الاستيطانية في قطاع غزة.
ويرى قادة الحركة الصهيونية وفي مقدمتهم مختلف رؤساء حكومات اسرائيل من اليسار واليمين على السواء ان الاستيطان الاسرائيلي في جميع أرجاء «أرض اسرائيل» يعد تعبيرا عن الحيوية الدائمة للصهيونية ورؤياها الخلقية، وان الأمن والسيادة والاستيطان أمور مترابطة لا انفصام لها، وبهذا التفكير الاسرائيلي فإن الأمن الذي يوفره الاستيطان الاسرائيلي هو في جوهره مفهوم وجودي أكثر مما هو ضرورة أمنية، حيث عبر عن ذلك وزير الحرب الاسرائيلي في السبعينيات موشي دايان بقوله «إن المستعمرات الاسرائيلية في الأراضي المحتلة حيوية، ليس لأنها تستطيع توفير الأمن أفضل، من الجيش، بل لأنه من دونها لا يمكننا الاحتفاظ بالجيش في هذه المناطق فمن دونها تصبح القوات الاسرائيلية جيشاً أجنبيا يحكم شعبا أجنبياً».
ففي السنوات العشر الأولى من الاحتلال أسس حزب العمل البنية التحتية المادية وكذلك المؤسسات السياسية الضررية لإقامة وتطوير وجود اسرائيلي استيطاني دائم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومع وصول حزب الليكود الى السلطة في اسرائيل سنة 1977م، وجد فيه سبباً لوجوده ومفتاحاً لانبعاثه السياسي، ووجد فيه الزاما أيديولوجيا يمثل عقيدة مركزية في فكر الصهيونية يقرها حزب العمل أيضا، ووجد الليكود في المشروع الاستيطاني فرصته لإقامة قاعدة سياسية له متجذرة في الأرض، تماما كما فعل بهذا الشأن حزب العمل سابقا في مستوطنات الكيبوتز والموشاف التابعة له قبل قيام الدولة الاسرائيلية.
وفي فترة ما بعد اتفاق أوسلو جاءت الأنشطة الاستيطانية لحكومة العمل في الضفة والقدس تضاهي بل تتفوق في كثير من النواحي على أنشطة حكومة شامير اليمينية خلال فترة 89-92م، التي بلغ فيها الاستيطان ذروته مع استقدام يهود روسيا الى فلسطين، وقد نفذت حكومة حزب العمل حملة لتوسيع الاستيطان خارج الاتفاق الانتقالي الموقع بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية الذي أحال موضوع المستوطنات الى الاتفاق النهائي الذي كان مقرراً أن يجري التفاوض بشأنه في سنة 1996م. فتصاعدت وتيرة الاستيطان سواء من خلال انشاء بؤر استيطانية جديدة وتوسيع المستوطنات القائمة في مختلف أنحاء الضفة الغربية والقدس الشرقية حيث هدفت السياسات الاسرائيلية المختلفة على تعزيز أغلبية اسرائيلية ساحقة في مدينة القدس الشرقية من خلال توفير المساكن لليهود وتضييق رقعة توسع السكان العرب فيها واقامة عائق مادي أمام ربط القدس الشرقية مع ريفها في الضفة الغربية وذلك من خلال اقامة سلسلة من المستوطنات المحيطة بالقدس الشرقية من الجنوب والشرق والشمال وتمتد على مسافة 11 ميلا عن وسط مدينة القدس، وذلك بهدف خلق أمر واقع يحول دون تقسيم القدس من جهة واعادتها الى ما كانت عليه قبل احتلالها في 5/6/1967م ودون امكانية ان تكون عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة، وبالتالي فرض الرؤية الاسرائيلية لمستقبل القدس في مفاوضات الوضع النهائي التي سيتم التفاوض من خلالها بشأن مستقبل القدس، والخطير في هذا الأمر انه يحظى بشبه اجماع سياسي في اسرائيل حتى بما فيها حركة مريتس اليسارية التي تعارض الاستيطان في الأرض الفلسطينية إلا أنها ترى من الضروري السعي لابقاء كتلة المستوطنات المحيطة بالقدس تحت السيادة الاسرائيلية وتؤيد استمرار البناء في القدس الشرقية والمستوطنات المحيطة بها.
لقد استغلت السياسة الاسرائيلية تأجيل البت في قضايا المستوطنات الى مفاوضات الوضع النهائي أبشع استغلال في توسيع الاستيطان وتنشيطه لخلق وقائع تحول بالقطع دون تواصل الأراضي التي تسيطر عليها سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، كما ضمن الاتفاق الانتقالي اجراءات حمائية وأمنيةواسعة للمستوطنات والمستوطنين خلال الفترة الانتقالية، وأكد مبدأ عدم خضوع المستوطنين الاسرائيليين للسلطة الفلسطينية حتى في الأمور الجنائية، ولذا فإن التشريع الفلسطيني لا يمكن له أن يعالج أمراً أمنياً يقع ضمن مسؤولية اسرائيل، ولا أن يهدد جدياً أية مصالح اسرائيلية أخرى يحميها الاتفاق الانتقالي بما فيها المستوطنات ومستوطنيها.
إن مسار الحل السياسي الذي جاء به أوسلو والشروط المجحفة التي تميزه، وكذلك النهج الذي تأكد في مشروع خارطة الطريق بإحالة موضوع المستوطنات الى الاتفاق النهائي، لم تبق سوى خيارات قليلة أمام الجانب الفلسطيني لوقف سياسات الاستيطان الاسرائيلية المستترة والمكشوفة الهادفة للاستيلاء على مزيد من الأراضي الفلسطينية، ووضع أمل الاستقلال الوطني والسيادة الفلسطينية في وضع هدف بعيد المنال من خلال اتفاق الوضع النهائي، حيث يحول تمدد المستوطنات واتساع رقعتها دون اقامة وحدة جغرافية متصلة لاقليم فلسطين المستقبل في الدولة المستقلة المنشودة.
ويأتي الجدار الفاصل العنصري الذي تنفذه اسرائيل ليكمل الوقائع على الأرض في السيطرة الدائمة على أراض فلسطينية جديدة حددت اسرائيل وضعها النهائي ومستقبلها بمفردها ومن دون تفاوض لتخلق أوضاعاً جغرافية تزيد الوضع تعقيداً أمام الاستقلال الفلسطيني خصوصا إذا ما نفذت خطتها في ضم المستوطنات الكبرى مثل مستوطنة آرائيل وغيرها لكي يشملها الجدار الفاصل بدعوى توفير الأمن لها. وإذا ما أكملت اسرائيل خطتها العنصرية هذه تكون قد ضمت اليها فعليا ما يزيد على 40% من مساحة الضفة الغربية، قبل ان تبدأ مفاوضات الوضع النهائي حسب مشروع خارطة الطريق.
إن اخلاء بعض المواقع الاستيطانية الهامشية «العشوائية» التي نصت عليها خارطة الطريق التي أنشأ معظمها الليكود ليست إلا خدعة تضليلية للجانب الفلسطيني فلا تقدم أو تؤخر في تغيير جوهر الحركة الاستيطانية الهادفة الى تأكيد التوسع الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل هي وسيلة ابتزازية للجانب الفلسطيني لتقديم ثمن باهظ يتمثل في اعتراف فلسطيني ظاهر أو باطن باستمرار وجود مستوطنات أكبر وأكثر قابلية للحياة في الأراضي الفلسطينية.
وبناء على ما تقدم فإن مطلب اخلاء المستوطنات الاسرائيلية يجب ان ينظر اليه الجانب الفلسطيني نظرة شمولية على أساس ان يتم في صفقة واحدة وعدم التمييز بين مستوطنة عشوائية وغير عشوائية وعدم الوقوع في هذا التصنيف للمستوطنات لما يخفيه من أهداف خبيثة قد تقضي على أمل الشعب الفلسطيني في الاستقلال والسيادة الوطنية على الأراضي التي يجب أن تقوم عليها دولته المستقلة، وعلى أن ينظر الى مبدأ اخلاء المستوطنات كافة على أنه العنصر الأساسي والجوهري الذي يجب أن يتم التفاوض بشأنه وانهاء جميع أشكال الاستيطان بموجبه.
إن الاستقلال الفلسطيني لا يمكن تأمينه من دون اخلاء المستوطنات الاسرائيلية الكبرى قبل الصغرى والمنتظمة قبل العشوائية في اطار صفقة السلام التاريخية التي تسعى القوى الدولية لإقرارها بين الفلسطينيين والاسرائيليين، واسقاط أية دعوى اسرائيلية بضرورة بقاء جيشها ضمن الاقليم الفلسطيني لضمان حماية هذه المستوطنة أو تلك في اطار اتفاق السلام النهائي العتيد الذي تبشر به خارطة الطريق، حتى يصبح أمل الاستقلال الوطني الفلسطيني ناجزاً في دولة مستقلة على الأراضي الفلسطينية التي احتلت بعد الرابع من حزيران 1967م وعاصمتها القدس الشرقية.
* مدير عام مكاتب اللجنة الشعبية الفلسطينية
|