من حقنا أن نفتخر بالتطورات الكمية التي شهدها القطاع الصحي وذلك من حيث عدد المستشفيات ومن حيث السعة السريرية لهذه المستشفيات وكذا من حيث أعداد فئات الموارد البشرية فضلاً عن توافر الأجيال الحديثة من الأجهزة والمعدات الطبية.
كما يحق لنا، والفضل في ذلك يعود للجهود المخلصة التي بذلها السادة أعضاء اللجنة الصحية والاجتماعية بمجلس الشورى وبمشاركة فاعلة من قِبل المسؤولين بوزارة الصحة، ان نفتخر بصدور عدد من الأنظمة الصحية «نظام التأمين الصحي التعاون والنظام الصحي» متوجة بمراسيم ملكية سامية.
ومن حقنا أيضاً ان نفتخر، وعلى وجه الخصوص، ان المملكة من الدول الأوائل في تبني تخصص إدارة المستشفيات، إذ لم يسبقها في هذا المضمار سوى دول قلة تقف في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي تبنت ومارست وسخرت، ومنذ ما يزيد على خمسين عاما، مفاهيم وأساليب هذا التخصص من أجل الارتقاء بنظامها الصحي.
لقد أدرك السلف من صناع القرار في وزارة الصحة وكذا السلف من صناع القرار في وزارة المعارف، حيث كانت المسؤولية عن شؤون الابتعاث والمبتعثين وذلك قبل إنشاء وزارة التعليم العالي، مدى أهمية تبني وممارسة مفاهيم وأساليب هذا التخصص، كوسائل ناجعة من واقع التطبيقات العملية في أمريكا وبريطانيا واستراليا تحديدا، للارتقاء بالنظام الصحي في المملكة.
ومن هذا المنطلق، باشرت وزارة الصحة، في بداية النصف الأول من السبعينات من القرن الماضي، في الخطوات الأولى لوضع هذه السياسة، سياسة الابتعاث لدراسة إدارة المستشفى «درجة الماجستير» موضع التنفيذ، حيث ابتعثت عدداً من موظفيها إلى جامعة GEORGIA STATE بالولايات المتحدة الأمريكية. وبعد فترة قصيرة ابتعثت الوزارة مجموعة أخرى من موظفيها إلى جامعة TULANE بولاية لويزيانا بالولايات المتحدة الأمريكية وذلك لدراسة ذات التخصص وذات الدرجة.
ومن واقع استرجاع واستنطاق السيرة الذاتية لهذه السياسة، سياسة الابتعاث لدراسة تخصص إدارة المستشفيات، نستطيع ان نتعرف على مدى ما كان يتمتع به السلف من صناع القرار من سعة في الأفق وفكر مهني خلاق بمدى حاجة القطاع الصحي في المملكة إلى كوادر متخصصة أكاديمية في إدارة المستشفيات تناط بها مهام ومسؤوليات الوظائف الإدارية في المستشفيات بمستوياتها الإشرافية والمتوسطة والعليا، وإيمانا بهذا الموقف الاستراتيجي لم يحصر الابتعاث إلى أمريكا في درجة الماجستير بل شرعت الأبواب لجميع القطاعات الصحية للابتعاث لدرجة البكالوريوس والدكتوراه في تخصص إدارة المستشفيات.
وفي بداية الثمانينيات من القرن الماضي شهدت هذه الاستراتيجية نقلة نوعية حيث بدأت جامعة الملك سعود في تدريس تخصص إدارة المستشفيات لدرجتي البكالوريوس والماجستير.
هذه السياسة، سياسة الابتعاث إلى أمريكا ولاحقا إلى بريطانيا، التي لا تزال تمارس حتى تاريخه، وهذه البرامج، التي مضى على إنشائها بجامعة الملك سعود ما يزيد على عشرين عاما، أثمرت عن توافر المئات من المواطنين المؤهلين تأهيلاً أكاديمياً عالياً في تخصص إدارة المستشفيات.
هذا الاستثمار الممتاز وهذا العائد الرائع الذي جنيناه منه أعرف، ومن واقع خلفيتي العلمية والعملية في هذا التخصص، مدى التقدير والإعجاب اللذين يحظيان به من قبل الجهات المهتمة بهذا التخصص، وبخاصة في أمريكا وبريطانيا.
الشيء الذي يعكر صفو هذه الصورة الحضارية الجميلة ويقلب الأمور رأساً على عقب يبرز عندما نعرف وتعرف الجهات المهتمة بهذا التخصص، في داخل المملكة وخارجها، ان واقع ممارسة إدارة المستشفيات في المملكة لا يزال يتدثر في عباءته التي كان يرتديها قبل السبعينات من القرن الماضي، أي قبل تبني الاستثمار في تخصص إدارة المستشفيات.
والشيء الذي يجب تقريره هنا هو اننا نجحنا أكاديميا في تبني وممارسة تخصص إدارة المستشفيات وبنفس درجة النجاح، تقريباً، التي وصلت إليها أمريكا وبريطانيا، الرواد الحقيقيون في هذا التخصص، ولكننا، ولسوء الحظ، فشلنا في تحقيق نجاحات حقيقية تعكس هذا الاستثمار على أرض الواقع العملي.
انظروا في الطريقة الحديثة لممارسة إدارة المستشفيات في المملكة وسترون كم نحن مقصرون في تسخير عائد هذا الاستثمار من أجل بناء نظام صحي تتسم أوجه أدائه بالكفاءة والفعالية والجودة، انظروا كيف تدار مستشفياتنا عن طريق التكليف السنوي، وهي طريقة جديدة في لبس العباءة القديمة لممارسة إدارة المستشفيات، وكأن كل ما هو مطلوب من مدير المستشفى هو التأكد من توافر جداول للعاملين تغطي العمل على مدار الساعة وكذا مراقبة دفاتر الحضور والانصراف فضلاً عن القيام بالجولات الميدانية.
ومع ان هذا التكليف مطابق للنظام من حيث المدة الزمنية إلا انه لا يبدو كذلك في شأن جمع المكلف، وهو طبيب، بين عملين وكذا وفاء المكلف بشروط الوظيفة، هذا إذا كان هناك شروط «انظر جريدة الجزيرة بتاريخ 30 سبتمبر لعام 2003، صفحة رقم 35».
في النصف الثاني من الثمانينيات من القرن الماضي حصل توجه حقيقي لاستثمار هذا العائد إذ كان هناك على سبيل المثال، ثماني مديريات صحية: «صحة منطقة مكة المكرمة، وصحة منطقة المدينة المنورة، صحة منطقة الطائف، صحة منطقة الباحة، وصحة منطقة تبوك، صحة منطقة بيشة، صحة منطقة حفر الباطن، وصحة منطقة نجران» تدار بمواطنين مؤهلين أكاديميا في إدارة المستشفيات. انظروا في الوضع الحالي حيث لا يوجد سوى منطقة صحية واحدة تدار بمواطن مؤهل أكاديميا في إدارة المستشفيات، هي منطقة نجران.
هذا تراجع حقيقي في التطبيق العملي لسياسة عمرها ثلاثون عاما من الاستثمار في تخصص إدارة المستشفيات. أليس كذلك؟ والسؤال الذي يجب طرحه في هذا السياق هو: ماذا يعني أو ما هي دلالات هذا التناقض؟ هناك عدد من الدلالات تقف وراء هذا التناقض نورد فيما يلي بعضاً منها، على سبيل المثال:
1 عدم وجود تغيير في ثقافتنا الاستراتيجية والتنفيذية نحو شغل الوظائف الإدارية بمواطنين مؤهلين تأهيلاً أكاديمياً مناسباً مع ان المملكة تحتل مرتبة متقدمة في الجوانب الأكاديمية.
2 ضيق في أفقنا الإداري في خصوص مدى أهمية إدارة المستشفيات على أسس علمية.
3 عدم التزام الخلف منا بسياسة السلف، وهذا، في رأيي، يعكس ثغرات أساسية في تكامل وشمولية الأنظمة.
4 عدم وجود تقييم شامل ومتكامل للجوانب النظرية والتطبيقية لهذه السياسة، سياسة الاستثمار في تخصص إدارة المستشفيات، وإلا كيف نبرر الاستثمار في سياسة الابتعاث الداخلي والخارجي لهذا التخصص ونحن لا نستثمر العائد من هذا الاستثمار كما ينبغي.
5 الهم العام يحتل مرتبة متأخرة في سلم اهتمامات بعضنا وربما يعود هذا لعدم وجود مساءلة موضوعية لسلوكياتنا الإدارية.
6 إسرافنا في أنانيتنا الأكاديمية وهذه الخاصية لا يجتثها إلا الأنظمة التي تضع مصلحة النظام الصحي فوق كل اعتبار.
في الختام ربما يسأل سائل ويقول: ولكن لماذا يسود هذا التناقض؟
مع ان جزءاً من الاجابة تكمن في الدلالات الموضحة أعلاه بيد ان العامل الرئيس لديمومة هذا التناقض يتمثل في عدم وجود نظام من قِبل الجهات المسؤولة عن تطوير الأنظمة «مجلس الخدمة المدنية، مجلس الشورى، ووزارة الخدمة المدنية، وزارة المالية بل وحتى وزارة التخطيط» تلزم بموجبه الجهات الصحية بعدم شغل الوظائف الإدارية بمستشفياتنا إلا بمؤهلين أكاديمياً في إدارة المستشفيات سواء أكانوا أطباء أو غيرهم من ذوي التخصصات الأخرى.
|