هناك حيث يلتقي ماء البحر بأشواق رمال الشواطئ النظيفة ذات البريق الأخَّاذ، وحيث تنطلق الزَّوارق، أو الهواري بلغة أهل ذلك المكان إلى لجج البحر باحثةً عن رزق أصحابها من صيده النقيّ الطريّ اللذيذ.
هنالك حيث تصافح أكفُّ الأمواج جذوع النخيل على ذلك الشاطئ الجميل، ويا له من لقاءٍ عجيب بين الماء المالح، والنخل الذي يثمر لنا ثمره الحلو، ما كنت قبلها أظنُّ أنَّ علاقةً حميمة سوف تنشأ بين ماء البحر الأُجاج وجذوع النخيل المثمر حتى رأيت ذلك رأي العين في «أُمْلج».
أُمْلُج؟، نعم تلك المحافظة الهادئة التي تصادق البحر الأحمر منذ زمنٍ بعيد، وتعيش أيامها ولياليها على مدِّه وجَزْره، ويا قوته ودرِّه، ومناجاةِ أمواجه التي لا تتوقف ألسنتها البيضاء عن الحديث.
مدينة أُملج عاصمة المحافظة التابعة لمنطقة تبوك، إحدى مدن بلادنا الغالية تنعم بنعمة الأمن والاستقرار، والحياة الحافلة بالعمل ليل نهار.
قبل أن أزورها هذه الزيارة لإقامة الأمسية الشعرية فيها يوم الأربعاء 12/8/1424ه بحثت عن اسمها «أملج» في عددٍ من الكتب التي كنت أظن أنها ستذكرها، فلم أجد له أثراً، وراجعت لسان العرب في مادة «ملج» فذكر كلَّ شيء على عادته عن هذه المادة ولم يذكر مدينة أُمْلج، وجاء موعد الأمسية دون أن أجد لهذا الاسم مكاناً في كتب التاريخ والسيرة، مع أن تلك المناطق كانت مسرحاً لكثير من الأحداث بعد أن بزغت شمس الإسلام.
وسألت نفسي: ماذا تعني كلمة «أُملج»؟، ولم أجد جواباً في حينها، مع أنني كنت وما زلت على يقين أن لهذا السؤال جواباً.
حين انطلقنا من مطار ينبع إلى مدينة «أُمْلج» التي تبعد عن ينبع مسافةً مقدارها «138» كيلومتر، كنت مع الابن أسامة رعاه الله نرافق اخوةً كراماً من أبناء أُملج، ولمست منهم حباً لمدينتهم، وحرصاً عليها، فإنهم مازالوا يتحدثون عن قيمتها في نفوسهم، وعن مدارسها ومساجدها، وبحرها وبرِّها حديثاً جميلاً كما هو الشأن في أحاديث المحبين.
وسألتهم عن معنى «أُمْلج» وهل هو اسم جديد لهذه المدينة، وكان الجواب المختصر موافقاً لما غلب على ظني من قبل، فالاسم القديم لهذا المكان «الحَوْراء»، وإنما سميت ب «أُملج» حديثاً، حينما وصل إليها الأتراك العثمانيون وكان بحرها هائجاً، ولجَّتُه ثائرة فأطلقوا عليها «أُمُّ اللُّجّ»، أي ذات اللجَّة الثائرة، ومرَّ الاسم بمراحل نطقه حتى استقر إلى «أُمْلج» كعادة الناس في تخفيف الأسماء ودمجها حتى يسهل عليهم نطقها.
وخطرت ببالي قصة مدينة «سامرَّاء» العراقية التي يخيَّل إليَّ أنها تبكي الآن على حال العراق كما نبكي، فهذه المدينة أسماها المتوكل حين بناها «سُرَّ من رأى» لأنها كانت تسر الناظرين، ثم مرَّت بها أحداث الزمان فنالها شيء من التدمير في أحداث ليس هذا مقام سردها، فأسماها الناس «ساءَ من رأى»، ثم مرَّ الاسم بمرحلة الدَّمج والتخفيف حتى أصبح «سامرَّاء».
في أُمْلج مجتمع مبارك، تآلفٌ وتعاون، ونشاط علمي وثقافي مبارك، ولجمعية تحفيظ القرآن الكريم فيها أعمال مذكورة مشكورة، ولقد رأيت من نشاط هذه الجمعية بقسمي الرجال والنساء، ما يثلج الصدر، ويدعو إلى الفخر بهذه الجهود الطيبة المباركة، وحينما زرنا «دار الشامخات» لتحفيظ القرآن رأينا من آثار الجهد القائم على حسن التنظيم، ما يجعلنا ندعو ونكرِّر الدعاء للقائمات على هذه الجمعية بالتوفيق والسداد والأجر الوفير من رب العباد، ولكل الداعمين والداعمات لها بالبركة والجزاء الأوفى من الله.
أبحرنا بعد صلاة الفجر من شاطىء مدينة أُملج متجهين غرباً إلى جزيرة تبعد في عمق البحر أربعين كيلومتراً اسمها «جبل حسَّان»، وماذا أقول عن رحلةٍ بحرية صباحية ترسم فيها أشعة الشمس أجمل اللوحات على سطح البحر الذي كان ساكناً، وكأنما ينظر إلى زورقنا الذي يجوبه نظرة المرحِّب المشفق على هذه الآلة الصغيرة، تمخر عباب مائة العميق، تحيةً لأملج ولأهلها الكرام.
إشارة:
لها في اليد اليمنى سوارٌ ودُمْلُجُ
ومن حولها بحر يردِّد: «أُمْلُجُ»
|
|