مقولات «المجتمع المدني» بضاعة رائجة في السوق السياسي والفكري بشتى أصقاع العالم منذ بداية التسعينات، وللسوق العربية نصيب وافر منها.. فما المقصود بالمجتمع المدني؟ وإذا كانت مقولاته الحديثة تطورت في سياق الظروف التاريخية للغرب وتقاليده فهل يمكن استنساخها أم مقاومتها أم نفرز الملائم لنا من عدمه؟ هل مفهوم المجتمع المدني صنو للتقاليد الغربية العلمانية؟ هل يهدد شرعية بعض الأنظمة في الدول العربية، أم - على النقيض- يهدد مشاريع المعارضة الإسلامية أو القومية أو اليسارية؟ خاصة أن بعض مؤيدي هذه المشاريع يرى أن مفاهيم المجتمع المدني أصبحت لكثرة رواجها تستخدم للتضليل من قبل حكومات مستبدة، عبر مجموعة من المؤسسات الأهلية وشبة الحكومية التي تمارس تكريس الوضع المتردي، مما يتعارض مع مفاهيم واطروحات المجتمع المدني عن حرية الرأي والفكر وتشكيل المنظمات المستقلة.. بالذات عندما يُطرح المجتمع المدني كبديل للأحزاب والحركات العربية المعارضة التي فشلت في تبني الحد الأدنى من الديموقراطية. إذن ما هو هذا المفهوم وما تاريخه؟
تاريخياً، تطور مفهوم المجتمع المدني عبر العديد من المراحل، وكان أول ظهور لمصطلح المجتمع المدني بالقاموس اللغوي في الحضارة الرومانية، ثم غاب طويلا ليعود مرة أخرى مع الثورة الصناعية في غرب أوربا، وليختفي مجددا. ثم شهد مفهوم المجتمع المدني انتعاشاً خلال بداية الثمانينات من القرن المنصرم في أوربا الشرقية من خلال حركة «تضامن» البولندية كمواجهة اجتماعية مدنية ضد تسلط الدولة والحزب الحاكم دون صدام عنيف. إلا أن استيعابها نظرياً في المرحلة الراهنة كما يرى عزمي بشارة تم في أوربا الغربية وأمريكا اللتين تشهدان نقاشاً محتدماً حول المفهوم. على أن عودة مصطلح المجتمع المدني لا تعني أنه يحمل ذات المفهوم السابق، لأنه أتى بسياق مختلف تاريخياً وحضاريا، كما أنه يختلف من إيديولوجية لأخرى ومن حضارة لأخرى.
ويتساءل عزمي بشارة: إذا كان تغير المفهوم إلى هذه الدرجة بين مرحلة وأخرى ، وبين مكان وآخر، ألا يفقد تبعاً لذلك قيمته التحليلية؟ فللخلفيات الفكرية وطبيعة الواقع السياسي الاقتصادي والاجتماعي للمهتمين بفكرة المجتمع المدني دور أساسي في تحديد سياقات وأبعاد المجتمع المدني والوصول بهذا المفهوم إلى نوع من عدم الاستقرار والوضوح.
إذن ما هو مفهوم المجتمع المدني الرائج هذه الأيام؟
يعرف فريد الشاني المجتمع المدني بأنه جملة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال نسبي عن سلطة الدولة وعن أرباح الشركات الخاصة، أي أنها عبارة عن مؤسسات مدنية لا تمارس السلطة ولا تستهدف أرباحاً اقتصادية، متبنية أهدافاً نقابية كالدفاع عن مصالحها الاقتصادية والارتفاع بمستوى المهنة والتعبير عن مصالح أعضائها، ومشتملة على أغراض فكرية وثقافية كما في الاتحادات والأندية الأدبية والاجتماعية والرياضية التي تهدف إلى نشر الوعي وفقا لما هو مرسوم ضمن برنامج الجمعية.
وينقل جانبي فروقة أحدث تعريف للمجتمع المدني على أنه «محيط تفاعلات الدولة المستقل» مشيراً إلى أن العلاقة بين الإيديولوجية والسلطة من حيث مساهمة الأفراد في صياغة القرارات هي بشكل انتقائي وحر. ولكن مثل هذه التعريفات يمكن أن تشمل المؤسسات والتنظيمات القديمة، فالقبيلة -على سبيل المثال- تعد تنظيماً مستقلاً عن الدولة.. فهل تُعدُّ من مؤسسات المجتمع المدني؟؟
وفي هذا السياق، لم يعد الجدل حول مفهوم المجتمع المدني بقدر ما هو حول مدى تطور المجتمع المدني بين عناصره الحديثة والقديمة. لذا يرى كوهين وأراتو أن وجود الروابط المدنية وتمثيلها لمصالح معترف بها وحقها في مناقشة القضايا العامة باعتراف الدولة وباستقلال عنها خاصة في مواجهة بيروقراطيتها ومواجهة اندفاع السوق الاقتصادية المبنية على الربح فقط، معيار لتقدم المجتمع المدني. وهذا معيار وظيفي لأداء وحداثة المؤسسة المدنية، إضافة لمعيار قانونية أو شرعية هذه المؤسسة التي ينبغي أن تنال اعتراف الدولة! ويتمثل ذلك في حركات السلام الأخضر والحفاظ على البيئة والصحة العامة والحركات الحقوقية والنسوية والمنظمات الدينية والجمعيات الخيرية والتخطيط البلدي والاجتماعي. ويرى عزمي بشارة أن المؤسسات القائمة على السعي نحو المساواة في المجالات الثلاثة: الحقوق المدنية للمواطنة، الحقوق الأساسية بالمشاركة في الشؤون العامة، والحقوق الاجتماعية، هي التي تشكل أركان المجتمع المدني.
ومن هنا، فإن منطلق المجتمع المدني كمصطلح غربي لا يعني تجاهل مضمون هذا المصطلح وتطبيقاته. فمنظومة المجتمع المدني المختلفة هي أطر وآليات وقنوات في شكل منظمات ومؤسسات وجمعيات وأحزاب ونحوها مستقلة عن سلطة الدولة وتقوم على أساس التراضي والاختيار الحر الديمقراطي والتعاون والعمل الطوعي لأفراد المجتمع وبما يحقق المصلحة العامة. ويعبِّر انتماء الأفراد إلى هذه المؤسسات المدنية عن حراك فعال ومؤثر للمجتمع، وبالتالي فإن مفهوم المجتمع المدني بهذه الوظيفة هو مفهوم حديث المصطلح، قديم المضمون ذو وظيفة مستمرة للمجتمع تطور آليات ووسائل هذه الوظيفة بما يجعل المجتمع دائماً قوياً وفاعلاً (محمد الأفندي) .
ومهما كان اللغط والخلط في مفهوم المجتمع المدني فإن المعيار الوظيفي يمكن أن يحدَّ من الخلط الهائل لهذا المفهوم بالابتعاد عن النظري المجرد والسجال الفكري.. وهنا تتراكم الأسئلة في مجتمعاتنا العربية: هل هناك حركة مجتمع مدني في العالم العربي؟ من يمثل المجتمع المدني، أو ما هي مؤسساته؟ ما هو دور مؤسسات المجتمع المدني في الدول العربية؟ هل تهدد مؤسسات المجتمع المدني بعض التنظيمات القديمة؟ هذا ما ستناقشه مقالة قادمة بإذنه تعالى.
|