الأصل عند كثير من بيروقراطيات الشعوب المتطوّرة أن ترتيبَ المصالح العامة وتقنينَها أمر يخضعُ لقواعدَ وضوابطَ وإجراءاتٍ تكيّفها سلطةُ النظام وهيبته، تأسيساً وتطبيقاً وتقويماً، وحين تطرأُ لأحدٍ من أولئك البشر الرغبةُ في إنجاز مصْلحة من المصَالح، يسألُ أو يبحثُ عن الإطار النظاميّ المقنِّن لتلك المصلحة، بغضّ النظر عن هُوية المطِّبق لها، فرداً كان أو جماعة، وليسَ من العسير عليه معرفةُ تلك الأُطر والإجراءات، وآيةُ ذلك أن تأمينَ الخدمة الهاتفية مثلاً في أغلب الولايات الأمريكية وبعض دول أوروبا لا يستغرقُ إنجازُها سوى يوم أو بضْع ساعات، وقد يكون إنجازُ مصلحةٍ ما من بين الأمور التي يمكن تحقيقُها عَبْر البريد أو شبكة «النت»، أو الهاتف دون مشقة أو عناء، كتجديد جواز سفر أو رخصة قيادة أو بطاقة ائتمان.. ونحو ذلك.
***
ذاك ما تفعلُه الشعوب المتطوِّرة بيرُوقراطياً، فهي تحترمُ أطُرَهَا وآلياتها النظاميةَ، وتصونها نصاً وروُحاً وإجراء، ولا تفكر في «تجاوزها» تسللاً من بابٍ خلفي أو ممر جانبي، أو عَبْر «ثقب» فوق «السطوح» طمعاً في اختصار إجراء أو استثناءٍ من شرط ونحو ذلك!
***
أما في بعض المجتمعات النامية، فالأمرُ جدُّ مختلف! فحينَ يرغبُ أحدُهم تحقيقَ مصلحة ما تتعلق بأمرٍ من أمور حياته، يبادرُ بادئَ الأمر بسؤال قريبٍ أو جار أو صديق له عمّا إذا كان «يعرف أحداً» في هذه المصلحة أو تلك الوزارة، كي يسهّل الجهدَ ويختصرَ الدربَ الذي يفصلُ بين نشوءِ رغبته وإنجازها، زماناً ومكاناً وإجراء!
***
وأضرب لهذا الحديث أمثالاً:
1- فقد يرغب أحدُهم السفرَ إلى بلدٍ ما، خاصةً في مواسم الذُّورة صيفاً أو شتاء، فيبحثُ عن «أحد» في هذه الخطوط أو تلك كي «يسهِّل» له مهمةَ الحجز تعجيلاً وتأكيداً، بدلاً من أن يخطط لسفره قبل حلوله بوقتٍ كافٍ، فلا يرهق هذا ال«أحدَ» بعبء الشفاعة، ولا يُحمِّلُ نفسَه مرارةَ السؤال وتبعة الجميل!
***
2- وقد يرغبُ آخرُ في تأسيس خدمة هاتف ثابتٍ أو جوال، فيسأل عن «أحد» في شركة الاتصالات أو مكتب الوزير، يختصر له الإجراء وصولاً إلى ما يريد! ربما كان لهذه «الوسيلة» مبررٌ في زمنٍ مضى، يوم كان العثور على رقم هاتف أقسى من الغوص في قاع محيط بحثاً عن لؤلؤةٍ أو كنزٍ ثمين! أما الآن، فقد تغير الحال وغَدا العسرُ يُسْراً!
***
3- يتخرجُ أحدُهم أو إحداهن من الجامعة، ويبدأ هاجسُ البحث عن الوظيفة يؤرقُ ليلَه، ويُشقي نهارَه، وبدلاً من أنْ يذهبَ إلى الجهة المعنية بالتوظيف في وزارة الخدمة المدنية تعرفاً على الفُرص المتاحة، يبحث عن «واسطة» يعتقد أنها تفتحُ له النوافذَ والأبوابَ! وتختصر له المسافاتِ وصولاً إلى ما يريد!
***
تلك نماذجُ لظواهرَ اجتماعيةٍ وسلوكيةٍ أتمنى أن يهتم بها أكاديميو الإدارة ومحترفوها تشخيصاً وعلاجاً، وأعتقد أنها تتكئ على العديد من السلبيات، منها ما يلي:
أ- غموضُ وتعدُّدُ بعض القواعد والإجراءات المقنِّنة لمصالح الناس، مما قد يرغمُ البعضَ على توظيف مقولة «تعرف أحد» تذليلاً لها!
ب- عدمُ إشاعةِ العلم بتلك القواعد والإجراءات بين الناس، فتبدو للبعض وكأنها أسرارٌ تثقل كاهل الرفوف!
ج- تناقضُ المواقفِ النفسيةِ لدى بعض الناس حول مبدأ «المساواة» في الحقوق والواجبات:
1- فهم، من جهة، يرغبون «في» المساواة فيما لهم من «حقوق» أسوةً بغيرهم، ويستفزُّ مشاعرَهم غيظاً الاستثناءُ من ذلك!
2- لكنهم في الوقت نفسه يرغبون «عن» المساواة فيما عليهم من «واجبات»، ويلتمسون الاستثناء منها إلى درجة قد تُؤذي مشاعرَ غيرهم من الناس، ويسوِّغون لذلك بألوان من القول!
***
أختم هذا الحديث بنداءين هامين:
الأول: متى نبلغُ مستوىً من عقلانية الفهم، وحضارية السلوك.. فندخلَ البيوتَ من أبوابها.. خدمةً لمصالحنا.. ونلتزمَ في الوقت نفسه بما هو مقنن من قواعد وضوابط وإجراءات تحكم هذه المصلحةَ أو تلك؟! بدلاً من شحذ الذهن.. وإرهاق النفس بحثاً عن «أحد» نعرفهُ أو «يشفع» لنا أحد عنده كي يفتح لنا باباً وصولاً إلى الغاية؟!
الثاني: متى يحينُ اليومُ الذي نعيد فيه النظر في اللوائح والقواعد المقننة لمصالح الناس.. بما ييسر ولا يعسر ونتعامل فيه نحن معشر البيروقراطيين مع الناس، كلِّ الناس، بشفافيةٍ وصدقٍ وعدلٍ.. نستقبلُ شكواهم، ونلتمس لها الحلول العادلة والعاجلة ما أمكن، أو نشرح لهم سبب ما تعثَّر تحقيقه، وقايةً لهم من الكَبَدِ وردْعاً ل«الحلول الملتوية» بأنماطها؟!
|