Monday 13th october,2003 11337العدد الأثنين 17 ,شعبان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

في ربوع فيحاء الشام «2» في ربوع فيحاء الشام «2»
عبدالله الصالح العثيمين

أشرت في الحلقة السابقة إلى السعادة التي أظلتني ظلالها الوارفة عندما أتاحت لي مشاركتي في الأيام الثقافية السعودية في سوريا فرصة تجديد اللقاء بأحبة أعتز بصداقتهم كل الاعتزاز وأقدر أخوتهم كل التقدير، كما أتاحت لي فرصة معرفة إخوة آخرين لم يسبق أن سعدت بمقابلتهم. وقلت: إن ما زاد حظي حسناً وسعادة أني وجدت نفسي - وأنا في أحضان فيحاء الشام مغموراً بنشوة عارمة وأنا أعانق الصف ناهضاً الصوت في العرضة النجدية، وأمسك الصف في شيلة حوطي فيحاء القصيم، وأشاهد فرقتها تلعب سامريها المميز.
ومما أشرت إليه في تلك الحلقة أن مما أثلج صدري أن الندوة التي شاركت فيها عن أثر العقيلات بين بلادنا وسوريا كانت برئاسة الزميل أبي بدر حمد القاضي ومشاركة الزميل أبي ضاري عثمان الرواف لأن أي خلل مني سوف يسدانه بما عهد عنهما من لطف ومعرفة.
كان مما أشار إليه كاتب هذه السطور في الندوة المذكورة أن من المعروف لدى الجميع ما وجد من اتصال وتواصل بين وسط الجزيرة العربية، التي تكون المملكة العربية السعودية الآن أكبر أجزائها، و بلاد الشام بمفهومها العام في قرون قديمة. لكن الحديث مركز على العقيلات، وبخاصة من بداية حديث المصادر المتوافرة عنهم خلال القرون المتأخرة.
ومما أشير إليه؛ مقدمة لذلك، إيضاح أن حركة القبائل في الجزيرة العربية كانت - في أغلبها - تتجه من الغرب والجنوب الغربي إلى الشمال والشمال الشرقي، وأنه كان للنزاع بين القبائل وسط الجزيرة العربية حول موارد المياه ومواطن الكلأ، وللقحط الذي يصيب هذا الوسط من الجزيرة في أحيان غير قليلة، أثر في انتقال قبائل، أو فروع من قبائل، إلى العراق والشام. وكان عامل القحط سبباً جوهرياً لهجرة فئات من حاضرة نجد إلى هذين القطرين، وإن كان أغلب هؤلاء يعودون إلى بلدانهم النجدية متى زال ذلك القحط. ولم يكن غريباً وتلك حالة نجد أن يجيء المثل الشعبي المشهور: «نجد تلد ولا تغذى».
وبلاد الشام بلاد دعا لها من دعوته مستجابة نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، بالبركة، فكانت أهلاً لدعوته مباركة لأهلها ومن كان يفد إليها من غيرهم. وإدراكاً من النجديين لواقعها المبارك كانت مقصداً لمن ثقلت عليه وطأة الأيام، وقبلة لمن عضهم الدهر بنابه، فراح يردد «الشام شامك إلى من الدهر منامك».
ولقد أشرت إلى أن الحديث عن العقيلات، أو عقيل، قد ورد في مصادر وكتابات مفيدة. ومن هذه الكتابات كتابات الاخوة إبراهيم المسلم، والدكتور عبدالعزيز عبدالغني إبراهيم، وعبدالرحمن السويداء، ولكل من هؤلاء منهجه الواضح وأسلوبه الخاص. لكن يجمع الجميع ما يوجد من فائدة في كتابة كل واحد منهم.
والذي يبدو - من خلال تأمل المصادر والكتابات - أنه يمكن تعريف العقيلات، أو عقيل، بأنهم أناس من نجد؛ وبخاصة الحاضرة كانوا يسافرون إلى العراق والشام وفلسطين ومصر، لا يجمعهم نسب واحد، ولا اقليم واحد من الأقاليم النجدية، وإنما يجمعهم الاشتراك في مزاولة عمل معين؛ وهو - في الأساس - التجارة مع أهل تلك الأقطار بالإبل في الدرجة الأولى، وبالخيل والغنم وغيرهما في الدرجة الثانية. ومع أنه وجد عقيلات من جميع أقاليم نجد إلا أن أهل القصيم كانوا يحتلون المكانة الأولى، عدداً ونشاطاً تجارياً.
على أن من الكتاب من ضموا إلى عقيل، أو العقيلات، في التسمية أولئك الذين سافروا إلى الأقطار المذكورة، وأقاموا فيها زمناً طال أو قصر، وزاولوا أعمالاً غير التجارة؛ مثل الحراسة، والنشاط الحربي غير النظامي.
والمتتبع للمصادر يجد أن القرن الثالث عشر الهجري بالذات شهد نشاطاً حربياً للنجديين الحاضرة في العراق كما يجد أنهم كانوا دائماً إلى جانب باشا بغداد في حروبه ضد المتمردين عليه من داخل العراق، أو المهاجمين لباشويته من خارجها.
أما في الشام فلم يكن لهم نشاط حربي في ذلك القرن. ولعل السبب كان استقرار الأوضاع في ولاية الشام نسبياً حينذاك بخلاف باشوية بغداد التي شهدت الكثير من الفتن والقلاقل.
ومن أولى الإشارات إلى مشاركة عقيل في قوات باشا بغداد ضد خصومه تعاونهم مع ذلك الباشا، سنة 1200هـ «1785م» ضد المتمردين الذين حاصروا تلك المدينة، وكانوا أبرز جنوده في حصاره للبصرة عام 1201هـ. وبعد عشر سنوات من ذلك كانوا مع حملة ثويني بن عبدالله، زعيم قبيلة المنتفق، التي سيرها والي بغداد ضد الدولة السعودية الأولى.
وفي عام 1228هـ كانوا برئاسة ناصر الشبيلي، مع جيش والي بغداد في حربه ضد أسعد باشا وقاسم بيك اللذين هربا إلى حمود بن ثامر رئيس المنتفق حينذاك. ثم كانوا مع جيش ذلك الوالي، سنة 1231هـ، ضد بنية الجرباء وعمه فارس ومن معهما من شمر وآل بعيج والزقاريط والخزاعل، وكانوا مع جيشه في إخماد ثورة الحلة سنة 1240هـ، وفي أخذه للزبير عام 1253هـ.
أما نشاط النجديين الحربي في بلاد الشام فظهر جلياً في القرن الرابع عشر الهجري عندما قدموا مع القوات التابعة للملك حسين، إبان ما عرف بالثورة العربية، ثم شاركوا إخوانهم السوريين في جهادهم ضد قوات فرنسا.
ولقد سبقت الإشارة إلى أن الإبل كانت تحتل المركز الأول في تجارة عقيل مع بلاد الشامل والعراق وفلسطين ومصر. وكانوا يشترون الإبل من البادية في نجد إما بجلب رجال البادية إبلهم في أسواق المدن النجدية، أو ببعث التجار رجالاً إلى مواطن البادية ليشتروا منهم الإبل؛ ويسمى هؤلاء «مولّفة» فإذا اجتمعت الإبل المناسبة للسفر بها انطلقت القوافل إلى الأقطار المذكورة. ومن التجار من كان يكتفي بالاتجار بماله الخاص، لكن منهم من كانوا لا يكتفون بذلك؛ بل يتاجرون بأموال آخرين بضاعة أيضاً. وكانت أعداد الإبل المتاجر بها، أحياناً، كبيرة جداً. ففي عام 1914م - مثلاً - جلب إلى دمشق ما بين 300 و 400 رعية. والرعية في عرف العقيلات يتراوح عددها بين 80 و100 بعير.
وكانت هناك أسر مشهورة من العقيلات بغناها ونشاطها. ولعل محمد العبدالله البسام كان أشهر شخصية من العقيلات عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وهو ينحدر من أسرة ربما كانت أغنى أسرة في نجد إبان حكم آل رشيد للمنطقة. وكان كل من الأمير محمد بن عبدالله بن رشيد والأمير عبدالعزيز بن متعب بن رشيد يخاطبان أبا محمد - عبدالله بن عبدالرحمن - في رسائلهما إليه «بالعم عبدالله».
وفي عام 1321هـ «1903م» وهي آخر سنة سافر فيها محمد من نجد إلى دمشق، كان معه مئة وعشرون رعية من الإبل. وهذه - بطبيعة الحال - لم تكن كلها ملكاً له وحده. بل كان منها ما هو بضاعة معه لآخرين. وكان يرافقه في سفرته تلك ثلاث مئة من الرجال، كما كان معه كلاب صيد، الأمر الذي بدا فيه وكأنه حاكم غني. وقد أخبرني متعب الحمود السبهان، حفيد الأمير عبدالعزيز بن رشيد من قبل أمه، أنه عندما اقترب محمد البسام من حائل؛ وهو في طريقه إلى الشام، ظهر ذلك الأمير من قاعدة حكمه مسافة يوم وليلة ليقوم بما رآه واجب ضيافة. وظل محمد في دمشق مرجعاً للعقيلات، ومتعهداً أولاً للدولة العثمانية لتأمين الإبل، مكرماً بنياشينها، إلى أن احتل الفرنسيون بلاد الشام.
ومع ما كان يلقاه المسافرون في الماضي من العنت، لاسيما أصحاب الدخل المحدود، فإن السفر إلى بلاد الشام بالذات كان محبباً إلى الفرد النجدي، الذي كان يستسهل كل صعب في سبيل ذلك. ولعل مما يصور هذا أن قصيمياً زار صديقاً له في فلاحته. وكانت قافلة عقيل توشك أن تنطلق إلى دمشق، فرآه مستغرقاً في التفكير، وقال له: بم تفكر يا فلان. قال: ما أدري أحج البركة أو أمشي للشام. وكانت «الغربية»؛ وهي السفر إلى الأقطار المذكورة مما يحسن أحوال المغرِّبين المعيشية، فتظهر عليهم آثار ذلك التحسن. وكان قرص العقيلي؛ وهو نوع فاخر من «الكيك» مما عرفوه في بلاد الشام، وأصبحوا يتناولونه، وعلموا أهلهم طريقه عمله.
وكانت ملابسهم التي اشتروها من الشام، مثل الزبنات والسديريات الجميلة، مما كانوا يتباهون به.
وقد أشار إلى ذلك الشاعر العوني في قصيدته «الحلوج»؛ وهي القصيدة المشهورة التي أرسلها إلى جماعته في دمشق يحثهم فيها على الخروج إلى نجد لانتزاع القصيم؛ وبخاصة بريدة من حكم ابن رشيد. ومطلع تلك القصيدة التي كان لها من الأثر ما كان:


خلوجٍ تجذّ القلب باتلى عوالها
تكسِّر بعبرات تحطّم سلالها
تهيض مفجوع الضماير بحسّها
إلى طوَّحت حسَّه تزايد هجالها

ومنها:


أبكي على دارٍ ربينا بربعها
معلومها خشم الرَّعن من شمالها
ومن شرق طعسين الأراخم تحدّها
بين اللوى والسرّ ما أطيب سهالها

ثم يقول:


يا طارشي من فوق سرَّاقة الوطا
هميم إلى سارت ذعرها ظلالها
إلى سرتها عشر وخمس مغرِّب
مرواحك «الميدان» منها منالها
والى جيت سوق العصر ياتيك غلمه
تخشَّع بزبنات البريسم نالها

ولقد استجاب من وجه إليهم قصيدته دعوته، فتركوا ما كانوا فيه من حياة في دمشق وما حولها، وأتوا من هناك ليقوموا بما حثهم على القيام به.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved