قبل سبع سنوات من الآن تلقيت من وكالة الآثار والمتاحف بوزارة المعارف خطاباً يفيد أنه تمت الموافقة على تأليف سلسلة كتب في الآثار عن مناطق المملكة المختلفة، وقد طُلِب مني كتابة نبذة عن تحديد موقع وجغرافية منطقتي الرياض والقصيم، وقد كتب ما طلب مني في حينه.
وقبل أربعة أشهر اتصل بي هاتفياً من «القصيم» الباحث الأستاذ «تركي بن إبراهيم القهيدان» وقال لي: نمى إلى علمي أنه تم تشكيل فريق لتأليف كتاب عن «آثار منطقة القصيم وأنك أحد أعضاء هذا الفريق، وأضاف قائلا: كنت أتوقع أن أُدعى للمشاركة في مثل هذا العمل ما دام موضوعه عن آثار «منطقة القصيم» لكوني أبحث ميدانياً ولي اصدارات ومقالات عن الآثار الموجودة في هذه المنطقة».
وبما أني لم أعد أتذكر ما كان طلب مني عن موقع وجغرافية منطقتي الرياض والقصيم نظراً لطول الوقت، قلت له: إني لا أعلم شيئاً عن هذا الموضوع الذي تتكلم عنه، وقد أحسست عند إنهاء المكالمة أنه غير مقتنع من إجابتي له على هذا النحو.
وقبل أيام اتصل بي هاتفياً أيضا وكأنه يلومني على انكاري المشاركة في تأليف هذا الكتاب، حيث قال: لقد سألتك فنفيت مشاركتك في تأليف الكتاب الخاص بآثار منطقة القصيم، والآن صدر الكتاب وأنت أحد مؤلفيه، ومن مكالمته الأخيرة فهمت انه متأكد مما يقوله، فقلت له: صدقني أنني ما زلت عند كلامي الأول، وأنه لا علم لي بما كتب عن الآثار الموجودة في منطقة القصيم، وقد يكون الأمر لا يعدو أن يكون أن مؤلفي هذا الكتاب اقتبسوا من كتبي التي صدرت وفيها تحقيق لبعض الأماكن الآثارية في منطقة القصيم.
وسكت الرجل وكأني به يضرب أخماساً بأسداس بين مصدق لقولي أو مكذب.
ولست ألومه على أي من الموقفين حملني عليه، فهو في الأولى لم يعتد مني إلا الصدق في القول، أما الثانية فقد تكذب الأفعال الأقوال!!
وكانت المفاجأة المؤلمة لي كثيراً عندما اتصل بي أحد الاخوان المتابعين لما أكتبه عن الصُّوى والمذيلات والدوائر الحجرية ورأيي بشأنها وأنها لا تعدو أن تكون أعلاماً لطرق القوافل القديمة بعد استبعاد المدافن الركامية حول المستوطنات قائلاً:
هل غيرت من رأيك حول المذيلات والدوائر الحجرية؟ فقلت له:
لم أغير من رأيي بشأنها. فقال: إذاً كيف توافق على أنها استخدمت كمساكن أو مدافن جنائزية أو ذات علاقة بالطقوس الدينية؟!
وعندما قلت له: إنني لم أوافق على هذه المقولات وأنني ما زلت عند رأيي الأول، قال: هذا كلام يناقض ما جاء في الكتاب «الرابع» الخاص بآثار منطقة القصيم من السلسلة التي صدرت مؤخراً، وأنت أحد مؤلفيه فقلت له إنني لم أطلع على ما كتب عن آثار منطقة القصيم، ولم أشارك في أي مناقشة دارت بشأنها، ولم أطلع على ما تضمنه هذا الكتاب حتى الآن، ولو كنت مؤلفاً فعلياً لهذا الكتاب - كما قيل - لما وافقت على بعض الأمور الواردة فيه، وكيف لي أن أوافق على أشياء لا أرى صحتها.
ومع أن اسمي ورد في أول صفحة من هذا الكتاب على أني أحد مؤلفيه الستة فإنه لم تتح لي الفرصة للاطلاع عليه قبل طبعه، وبعد الطباعة لم أحصل على نسخة منه إلا من جهة أخرى غير الجهة التي أصدرته.
وأحب أن أؤكد هنا إلى أني في حِلٍّ مما ورد في هذا الكتاب حتى وإن كان ما نسب لي عن طريق الاقتباس من كتبي التي صدرت، فقد يكون لدي اعادة نظر فيما سبق أن أبديته من رأي، لا سيما أن هذه السلسلة التي صدرت عن مناطق المملكة كان الواجب أن يُراعى في اصدارها الدقة المتناهية، لأنها ستكون مرجعاً للباحثين والمهتمين بتاريخ المملكة العربية السعودية وآثارها.
ومن الأدلة على عدم الدقة في اخراج هذه السلسلة إضافة اسم مؤلف لأحد أقسامها «آثار منطقة القصيم» وهو لم يستشر في هذه الآثار.
كما أن من الأدلة على هذا إيراد بعض الأمور على علاتها مثل إيراد أقوال لم يتحقق من صحتها، بل كانت محل خلاف بين الباحثين، وأضرب مثالاً من قراءتي العابرة لما تضمنه الكتاب «الرابع» من هذه السلسلة وهو كتاب «آثار منطقة القصيم».
أولاً: ما قيل عن الدوائر والمذيلات والحجارة المنصبة العائدة لعصور ما قبل التاريخ، ورد في صفحة 61 ما نصه:
(يرجح الدارسون أن هذه المنشآت الحجرية تعود إلى فترة العصر الحجري الحديث واستخدمت كمنازل ومقابر خلال تلك الفترة الزمنية الموغلة في القدم). وفي صفحة 68 قيل عن النصب الحجرية:
(أما عن وظائف هذه المنشآت الحجرية فبالرغم من أن ثمة اتفاق بين الدارسين بأنها تعود إلى العصور الحجرية، فإن تفسير وظائفها الاجتماعية لا يزال محط نقاش واسع، فالبعض يرى أنها استخدمت للسكن، والبعض الآخر يعتقد أنها مدافن جنائزية، ومنهم من يرجح أنها ذات علاقة بالطقوس الدينية).
التعليق:
أقول: كان بودي أن من كتب هذا الكلام تَلَطف قليلا ليضع رأيي المتواضع حول هذه الحجارة المنصبة والمذيلات والدوائر الحجرية، حيث توصلت إلى أنها أعلام لطرق القوافل القديمة ولا شيء غير هذا، ورأيي ليس من الخفاء بحيث أجد مبرراً لعدم ذكره بين هذه الآراء التخرصية التي قال بها الرحالة الأجانب ومن أخذ برأيهم، فقد ضمنت هذا الرأي كتبي التي صدرت وخاصة كتابي «أعلام الطرق القديمة بين خيال الباحثين والواقع» وكذلك ما دار بيني وبين بعض المتخصصين بالآثار من نقاش بهذا الشأن على صفحات الجرائد اليومية، أو من خلال المحاضرات التي ألقيتها في أكثر من مناسبة.
ولكن يبدو مما حصل أن للمثل القائل: (مغني الحي لا يطرب) نصيبه من الصحة!!
لقد حاولت أن التمس عذراً لعدم إدراج رأيي الذي قام الجدل حوله ولم يقعد بعْد، ولم أجد لهذا محملاً، ولاسيما أن بعض العاملين على هذه السلسلة الآثارية أعضاء في الفريق العلمي الأكاديمي المشكل لدراسة ما قلت به من رأي حول هذه الشواهد الآثارية، حيث احتضنت «دارة الملك عبدالعزيز» هذا المشروع برعاية من رئيس مجلس إدارتها صاحب السمو الملكي الامير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض، ولعلي بهذا الايضاح خرجت بعذر.
ثانياً: ورد في صفحة 120 من كتاب «آثار منطقة القصيم» تحت عنوان «طرق الحج» ما نصه:
(2- طريق اليمامة مكة: يمتد هذا الطريق من منطقة اليمامة عبر وادي حنيفة ليصل إلى القريتين بالقرب من عنيزة حيث يلتقي فيها مع طريق الحج البصري، وما زالت آثار ومعالم المحطات على هذه الطرق باقية ومشاهدة للعيان حسبما سنوضحه لاحقاً في قائمة مواقع الآثار الإسلامية). انتهى.
أقول: لست في مجال تقريظ أو نقد هذه السلسلة التي صدرت، وإنما أجدها فرصة لأعلق على هذا النص الخاص ب«طريق حاج اليمامة إلى مكة» فقد كان هذا الموضوع محل نقاش بيني وبين شيخنا «حمد الجاسر» - رحمه الله - وقد يكون للكلام عنه هنا فائدة للقارئ، وشحذ لهمم الباحثين والمهتمين بتاريخ وجغرافية بلادنا.
ولو كنت فعلا من مؤلفي هذا الكتاب لما وافقت على إيراد مثل هذا القول، لأن الواجب عدم نقل نصوص قديمة على علاتها دون غربلتها وتصحيح ما اعتورها من غموض وإبهام أو خطأ.
أثناء تحقيقي لمسار «رطيق الحج البصري» وقفت طويلا عند منزل «القريتين» قرب مدينة «عنيزة» في منطقة القصيم، وقد استوقفني عنوان في كتاب «المناسك» للحربي تحقيق الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله- هذا العنوان يقول: «ولليمامة طريقان إلى مكة» وتحته كتب «طريق من القريتين لا يأخذ على مرأة وطريق على مرأة.. الخ».
وعند مقارنة هذا القول بما قاله «ابن خرداذبة» وما قاله «قدامة بن جعفر» وجدتهما بوصفهما للطريق من اليمامة الى مكة يقولان عبارة (ثم القريتين من طريق البصرة) وقد تساءلت كثيراً كيف يتجه من يريد مكة من اليمامة إلى القصيم ثم يعود باتجاه مكة، وقد قمت بزيارة لشيخنا حمد الجاسر محقق كتاب «المناسك» لعلي أظفر منه بالاطلاع على مخطوطة الكتاب، والتباحث فيما تولد عندي من تساؤل حول هذا العنوان وكذا النص، وقد علل - رحمه الله - مرور حاج اليمامة ب«بالقريتين» بالنواحي الامنية، أما المخطوطة فلم أطلع عليها، ولم أقتنع بهذا التعليل لعدم ورود نص قديم يعضده. كان هذا قبل أن اكتشف أن لطرق اليمامة إلى مكة أعلاماً تقود إلى مواردها وتحدد مساراتها.
وقد اتضح لي أخيراً أن تداخل هذه النصوص وتضاربها أكثر مما كنت أتصوره، وهو تضارب لا يقل عن التضارب والاختلاف في تفسير الهدف من وضع الدوائر والمذيلات الحجرية!!
إن النصوص التي تكلمت عن ما أسمته «الطريق من اليمامة إلى مكة» مصدرها واحد، وكلها تصحيف وتحريف، فإذا أخذنا النص الذي ذكره «قدامة بن جعفر البغدادي» في كتابه «الخراج» نجده يقول: «وأما الطريق من اليمامة إلى مكة: فمنها إلى العرض وإلى الحديثة وإلى السيح وإلى الثنية العقاء وإلى سقيراء وإلى السد وإلى مرارة وإلى سويقة وإلى القريتين من طريق البصرة». انتهى.
فقل لي بربك، ماذا فهمت من هذه الأماكن التي ذكر أن الطريق يمر بها لقد أعمل النساخ أقلامهم في هذه النصوص تصحيفاً وتحريفاً، مما نتج عنه عدم التعرف على هذه الأماكن.
ليس عندي شك في أن مثل هذه النصوص وردت لنا مبتورة لا ترقى إلى الاستدلال بها على مسارات الطرق، والدليل على هذا أننا إذا ألقينا نظرة على وصف قدامة بن جعفر نفسه عن وصفه لمسار الطريق الأيسر لحاج اليمامة نجده يقول:
«ومن اليمامة طريق آخر إلى ما نص باحة الزلف منزل مصاه أهل الجون ماوية من طريق البصرة». انتهى.
فهنا نجده يذكر أن الطريق من اليمامة إلى مكة يمر ب«مَاوِيَّة» من طريق البصرة، فهل يتصور إنسان من سكان هذه البلاد أن الطريق من اليمامة إلى مكة يتجه شمالا ناحية «حفر الباطن» الذي تقع ماوية بالقرب منه وهي أحد منازل الحج البصري؟!
ورغم أن قدامة بن جعفر هذا كان ملماً بمسالك الطرق، لأنه «صاحب البريد» في عهد المستكفي بالله إلا أنه وقع في هذا اللبس نتيجة لتعدد مسميات الاماكن ولكونه لا يعرف أماكنها.
واللبس الحاصل للطريق الأول هو على غرار اللبس الحاصل لهذا الطريق الثاني، وليس المقام هنا محل بسط الكلام عن تداخل النصوص وتحليلها، فقد أعددت بحثاً مطولاً يوضح ما حصل من لبس كما يوضح مسار طريقي حاج اليمامة الأيمن والأيسر اللذين يمران بوسط عالية نجد وليس بمنطقة القصيم أو جهات حفر الباطن كما قيل.كما تكلمت في ذاك البحث عن العنوان الموجود في كتاب «المناسك» للحربي مبينا انه يتكلم عن طريق تجاري من اليمامة إلى البصرة، وليس طريق حاج اليمامة كما قيل، لذا أرى أن إدخال هذا النص في كتاب «آثار منطقة القصيم» دون تمحيص محل نظر، وبالله التوفيق.
كتبه /عبدالله بن محمد الشايع
بتاريخ 1/8/1424هـ
|