دلفت المكتب برفقة معلمتها التي أبدت عزوفها عن مشاركة زميلاتها الدرس والتحصيل، وقلة اهتمامها وضجرها على غير العادة! تركتها المعلمة وقفلت راجعة إلى فصلها.
تفتر عنها ابتسامة باهتة، بل تحمل غرابة!!
داعبتُها - كعادتي مع الصغيرات - وشرعت أقصُّ عليها حكاية..
فلا تكاد تبدي إلا تلك الابتسامة الهادئة التي ما لبثت أن أفلتْ بعد أن وصلنا إلى أهم فصول الحكاية!!
عينٌ ترقبها، والعين الأخرى يسكنها القلق والحيرة!!
ترى؟ لماذا لم تندهش؟! ولم يبدُ على مرآة وجهها أدنى مراتب الإنصات؟!
أهزها بلطف بعد أن شعرتُ أن تلك الغمامة تكاد تمطر دموعاً ويغرق فيها الكلام!!
لم نكمل القصة! فالمقطع الأخير ظل منقطعاً، بل معلقاً!!
أريد أن تهزني، وتلح علي وتطلب مني اكمال فصولها!
ولكن نجلاء .. لم تفعل!!
«نجلاء.. نجلاء».. أردد اسمها فكأن الأمر لا يعنيها!
ترى.. هل نطقت بما جرحها؟ أو بما آذى أحاسيسها؟ أم أن القصة تذكِّرها بموقفٍ لم يكن عابراً في حياتها؟!
كانت القصة عن العصافير.. وعن الاستيقاظ باكراً..
وفرحة تلك الطيور بالنور.. ونشيدها، وتغريدها بأعذب الألحان..
وذكرتُ أن أحدها طار بعيداً، فافتقده أصدقاؤه!
تعبث نجلاء بشعرها تارة، وتارة أخرى، تقضم أظافرها!! وتفرج أصابعها، وتتأملها، تارات عديدة.
أصغي إلي يا نجلاء! سأكمل القصة،
سيعود العصفور محملاً بالأخبار السارة وسيقصُّ على أصدقائه رحلة الاستكشاف..
«نجلاء، نجلاء».. سيعود العصفور.. اسمعي بقية القصة.
ما هذا الخمول، واللامبالاة؟! لمَ لمْ تشدها القصة؟! إنها ممتعة!
«نجلاء، نجلاء» أهزها بلطف..
عندها.. بزغت تلك الابتسامة الحائرة.. وفجعتني تلك النظرة الشاردة..
هل تشعرين بألم يا «نجلاء»؟ أم أصابك الملل من سرد القصة؟ إنها جديدة!
هذه المرة عن العصافير، والأخري عن الفراشات..
فأنتِ العصفورة والفراشة.
أنتِ كل الطيور المحبوبة والمألوفة والبريئة.. أنتِ الكناري والبلابل، هيا، أسمعيني شدوك وتغريدك.. أم نتابع القصة؟
رفعت «نجلاء» بصرها نحو هذا الجسد المائل أمامها.
وكأنها تقول: توقفي عن الكلام، كفي عن الحديث!!
بيد أنها لم تفعل! لأنها تعلم أن ذلك الجسد بداخله كهفٌ من الدفء والحنان والأمان.. فهي تقترب منه رويداً رويداً، وتصطدم بكل الصخور الخارجية لتختفي في دهاليز الشرايين.. والأوردة فجأة: ترفع يدها نحو أذنيها لتعلن بصمتٍ وحيرةٍ وألم، أنها في هذه اللحظة لا .. تسمع!!
تُخِرجُ من أذنها جهازاً وتشير إليّ أن البطارية قد استنفدت طاقتها!! فتعطلت لغة الاستماع.. والكلام!
وبقيت لغة لا تحتاج إلى وسيلة!
إنها لغة الحب والتفاهم بين تلميذة في الصف الأول الابتدائي وبين مرشدتها في المدرسة!!
ص.ب: 260564 - الرياض: 11342
|