من الواضح أن حمى الانتخابات الرئاسية الأمريكية بدأت تلقي بظلالها على مجريات السياسة الخارجية الأمريكية من الآن.. فهذه تصريحات فخامة الرئيس الأمريكي جورج بوش عن سوريا تعكس رؤية سطحية للمواقف الاستراتيجية التي ينبغي أن تتبناها دولة عظمى بحجم وثقل الولايات المتحدة الأمريكية في العالم.. ومن يتفحص سيكلوجية إلقاء الرئيس لهذا التصريح يجد أنه جاء مرتباً لتأدية واجبات سياسية ومستحقات حزبية تجاه المرحلة الانتخابية القادمة.. ولا يمكن أن نصدق نحن والعالم - عدا شخص الرئيس والموجهيين السياسيين له - مقولة إن سوريا ينبغي أن تعاقب وترتدع في سياق هجمة إسرائيلية على سيادة دولة عضو في الأمم المتحدة وتمتلك من الحقوق ما تمتلكه أي دولة أخرى بما في ذلك جميع دول منطقة الشرق الأوسط.
وقد أشار سمو الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية إلى هذه النقطة بالتحديد أثناء وجوده في ديترويت «الولايات المتحدة» وفي مؤتمره الصحافي بالرياض الأربعاء الماضي، حيث أكد فكرة تأثير الانتخابات الأمريكية على السياسات الأمريكية.. وقد أشار مازحاً أن كثيراً من القضايا - ويقصد ذات العلاقة بالمملكة ومنطقة الشرق الأوسط - يمكن أن ينصفها العقل الأمريكي إذا تأجلت الانتخابات.. وفي الرياض أشار الأمير إلى أن ما يعكر صفو العلاقات العربية الأمريكية والسعودية الأمريكية المجاملة المفرطة لإسرائيل..
ومن المؤكد أن مهاجمة إسرائيل للسيادة السورية جاء نتيجة حسابات دقيقة وضعتها إسرائيل لمجموعة اعتبارات، يمكن إيجاز بعضها في النقاط التالية:
1- كانت إسرائيل تسعى من فترة طويلة وخصوصا منذ حملة مكافحة الإرهاب الدولية إلى توسيع نطاق هذا الحريق ليشمل سوريا.. وقد سعت إلى ذلك من خلال العقول المخطوفة داخل دوائر اتخاذ القرار السياسي والتشريعي والعسكري والاستخباراتي والمأجورة لصالح مصالح إسرائيلية صرفة.. وذلك لكون سوريا تتخذ خطاً متشدداً من إسرائيل، رافضة أي تنازلات أرضية أو سياسية في مراحل المفاوضات المعطلة بين البلدين.. ولهذا كانت إسرائيل حريصة على الزج باسم سوريا في هذه المعمعة، من أجل زعزعة استقرارها بغية توظيف ذلك على شكل تنازلات سياسية كبيرة لصالح إسرائيل.
2- حاولت إسرائيل منذ حرب العراق الأخيرة في جدولة سوريا في ذهنية التفكير العسكري الأمريكي لتكون هي الخطوة التالية بعد العراق في سلم الترتيبات التي يسعى لها الراديكاليون في البنتاجون والبيت الأبيض.. بحجة مكافحة الإرهاب وعدم التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية.. وعمقت إسرائيل وقوى اللوبي الصهيوني هناك من جدارة ومنطقية واحتمالية هذه الفكرة.
3- اختارت إسرائيل أن تقدم على هجمتها العسكرية على سوريا بعد حادث التفجير في إسرائيل الذي أودى بحياة تسعة عشر شخصاً.. وهذا التوقيت مدروس بدقة حسابية للمواقف الداخلية والخارجية لإسرائيل.. لتبدو عملية الهجوم الإسرائيلي وكأنها إجراء دفاعي من إسرائيل ضد المنظمات التي تدعي إسرائيل بأنها «إرهابية».. وهذا تفكير يهدف إلى ربط مباشر بين سوريا والعمليات الانتحارية داخل إسرائيل.. ومن المتوقع أن يتواصل هذا الربط بين عمليات الداخل في إسرائيل وبين ضرب مواقع معينة في سوريا، وربما تتجه في المستقبل إلى لبنان وبعض الدول المجاورة.
4- حسابات إسرائيل في استهداف سوريا جاءت مواكبة للحملات الانتخابية التي بدأت تستعر في الولايات المتحدة بدءاً من الانتخابات الرئاسية، حيث من المتوقع أن يعلن الرئيس جورج بوش قريباً إعادة ترشيح نفسه للرئاسة الأمريكية.. ولهذا فإسرائيل كانت تدرك علم اليقين أن هذه التحركات الاستفزازية الإسرائيلية ستمر مر السلام، بل إنها استثمرتها إلى أفضل درجة ممكنة من التوظيف السياسي لصالحها.. فقد أكد فخامة الرئيس بوش أن من حق إسرائيل أن تدافع عن مواطنيها في أي مكان في العالم.. فلو أسقطت إسرائيل طائرة مدنية في أجواء الأردن أو مصر أو السعودية بحجة أن أحد ركاب هذه الطائرة مشتبه في كونه من الإرهابيين، فهذا مبرر حسب منطق الرئيس بوش.. وإذا اجتاحت القوات الإسرائيلية جنوب لبنان أو دخلت أراضي «أخرى» سورية فسيكون هذا مبرر من قبل فخامة الرئيس لكون هذا الاجتياح عمل مشروع يهدف إلى الدفاع عن المواطن الإسرائيلي في تل أبيب أو حيفا.. وإذا اغتالت إسرائيل السفير السوري في مدريد أو المندوب الفلسطيني في نيويورك أو المبعوث المصري في طوكيو أو الملحق اليمني في باريس أو الوفد السوداني في كينيا فهذه عمليات مبررة حسب المنطق الجديد لفخامة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.. وإذا دمرت الغواصات الإسرائيلية سفينة في البحر الأحمر أو البحر الأبيض أو الأسود فسيكون هذا متمشياً مع جهود الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب لكون أحد من يركب هذه السفينة هو صحافي عربي وكاتب مفكر كان قد استاء من الموقف الأمريكي في العراق وأفغانستان ونادى برفض إرسال قوات عربية للدفاع عن القوات الأمريكية في العراق..
هذا هو المنطق الذي يتحدث عنه فخامة الرئيس جورج بوش.. وينبغي أن نتشرب بهذا المنطق.. وينبغي أن تعتب الولايات المتحدة على الرئيس الفرنسي جاك شيراك والرئيس الروسي بوتن والأمير عبدالله بن عبدالعزيز والرئيس حسني مبارك وغيرهم من قادة دول العالم الذين استنكروا هذا الهجوم الذي لا يقبله منطق ولا يقره شرع ولا تستقيم معه رؤية.. وهذا المنطق هو ما عناه الأمير سعود الفيصل ب«المجاملة المفرطة» لإسرائيل خلال فترة الانتخابات الأمريكية التي تأتي عادة على شكل استعداء مقيت للقضايا والإنسان العربي.. وحتى لو بلغنا أقصى درجات التطرف - العقلاني - لا يمكن أن نكرر ما كرره الرئيس بوش من كون الهجوم على مواطنين فلسطينيين أبرياء موجودين في سوريا هم ضحايا الاحتلال الإسرائيلي لبلادهم وممتلكاتهم و هوائهم وثرواتهم ومياههم.. هو نوع من الدفاع عن المواطن الإسرائيلي.. إلا إذا كان يقصد فخامة الرئيس هو كون الهدف من هذه العمليات حرق فلسطينيي الخارج، وتعذيب فلسطينيي المهجر والمخيمات، من أجل ألا تكون هنا مطالبات فلسطينية بحق العودة لهم.. ربما.. وإذا هو قصد ذلك، فيكون فعلاً منطق الرئيس قد بلغ شأناً لا يمكن تخيله أو استيعابه.
ونعود مرة أخرى إلى موضوع الانتخابات الأمريكية، التي تأتي عادة على كامل الحقوق العربية، فيتربع على عرش الكونجرس وسدة البيت الأبيض وأروقة البنتاجون كل من جافى المنطق وعسف بالحقائق.. وكرس الظلم وعمق التمييز العنصري بين العرب والأمريكيين.. ونحن ندرك منذ زمن أن قضايا العرب لا تجد المنصف والمحايد خلال فترة الانتخابات الرئاسية الأمريكية.. ونعيش كل أربع سنوات حمى الهيمنة الصهيونية على العقل الأمريكي.. ومن يتفحص القرار الأمريكي بدقة يلاحظ أن العام الذي يلي نتائج الانتخابات يكون عبارة عن دفع استحقاقات حزبية لكل من ناصر الفائز في هذه الانتخابات، سواء أكان حاكماً لولاية أو عضواً في الكونجرس أو رئيساً لبلدية أو رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية وعادة ما تكون قوى ضغط ومؤسسات لوبي وهيئات عنصرية موالية لإسرائيل..
أما السنتين الثالثة والرابعة في دورة الانتخابات فتكون على شكل منح سياسية يغدقها المرشحون على قوى الضغط وشركات التأييد ومؤسسات النفوذ حتى تنتهي الانتخابات.. وإذا قمنا بعمليات حسابية سنجد أنفسنا أمام - ربما - عام واحد فقط يمكن - وأؤكد القول بيمكن - أن يكون هناك عقلانية أو حيادية تجاه قضايا الشرق الأوسط.. وتكون المعادلة أن ثلاث سنوات من مجموع أربع سنوات في كل دورة انتخابية تفقد فيها أمريكا عقلها، حيث يتم اختطافه أو تأجيره من قبل أصحاب القوة والنفوذ داخل المجتمع الأمريكي لخدمة المصالح الإسرائيلية.. فإذا حولنا هذه المعادلة على شكل ساعات عمل للعقل الأمريكي نكون في اليوم الواحد أمام ست ساعات من العقلانية.. وعدا ذلك فلا نتوقع.. ولا نأمل أي جديد إيجابي..
* رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
أستاذ الإعلام المساعد بجامعة الملك سعود
|