فإن الإمام البخاري -رحمه الله- كان موفقاً وفقيهاً لما ترجم في صحيحه باباً فقال: باب العلم قبل القول والعمل، وترجم عليه بن ليل وهو قوله تعالى من سورة محمد {فّاعًلّمً أّنَّهٍ لا إلّهّ إلاَّ اللَّهٍ وّاسًتّغًفٌرً لٌذّنًبٌكّ وّلٌلًمٍؤًمٌنٌينّ وّالًمٍؤًمٌنّاتٌ }.
والعلم المراد هاهنا هو علم الشريعة الموروث عن الله في كلامه القرآن، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته أوضح البيان، إن العمل لم يغب تماماً عن الأمة، لكنها نالت غفلتها عنه بقدر ونصيب، ومن ذلك ما نال شبابها، بل متعليمها، حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم انه في آخر الزمان يفشو القلم، ويرفع ويقل العلم، كما رواه بعض أهل السنن، وهذا بدأ يُلحظ بوجه أو بآخر من خلال وجود التعليم المبني على رفع الأمية بالقراءة والكتابة، لكن مع جهل ذريع بالعلم الشرعي ولا سيما ما فرضه عليها فرضاً كفائياً.
ولذا أسباب كثيرة متعددة أهمها العزوف عن العلم والتعلم، ومجالسة العلماء والآخذ منهم، والصدور عنهم، قبل ان يفقدوا بالموت، فإن ذهابهم ذهاب للعلم وفقد له كما صح في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من صدور الناس، ولكنه يقبضه بقبض العلماء، فإذا ذهب العلماء اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فافتوا بغير علم فضلوا واضلوا».
هذا والمظنون بشباب المسلمين - ولا سيما في أيام الفتن والمحن، ان يعتنوا بالعلم ويلازموا أهله ويصدروا عنهم، ويرددوا أمورهم ومشاكلهم إليهم، فتنالهم العصمة بهذا العلم عن الوقوع في براثن الفتن والجهل، فأهل العلم ابعد الناس عن الفتن وأهل الجهل والطيشان اولغ الناس فيها، فمستقل ومستكثر.
ولهذا - أي بسبب خفاء العلم على بعض الناس حتى - المتعملين - خفيت معاني المفاهيم الشرعية ذات الدلالة الكبيرة، فأصبحنا نلمس عدم الفرق بين أقسام الكفار من جهة العلاقة والمعاملة معهم، فلا يفرق بين الكافر الأصلي والكافر المرتد، ثم في الكافر الأصلي بين: المحارب والمعاهد والذمي والمستأمن، وكذلك في الفرق بين الجهاد بنوعيه: جهاد الطلب وجهاد الدفع، وبين قتال أهل البغي وتكفير الناس المعصومين وقتلهم.
إن اختلاط المفاهيم وتسمية الشيء بغير اسمه الشرعي من علامات الساعة، لانه دلالة واضحة على الجهل الذريع بالشريعة الإسلامية، ودلالة على الهوى والاعجاب بالرأي، وتسويغ الباطل، وتسفيه الحق.الم تسمى الخمر بغير اسمها، حتى سميت مشروبات روحية؟
كما سُمي الربا: فوائد بنكية واستثمارات اقتصادية؟ وسُمي التدين ارهاباً؟ كما سُمي السفور تقدماً وحرية؟ ومن سُمي قتل المعصومين في دمائهم وأموالهم واعراضهم جهاداً وفداءً في سبيل الله.
ولو أن هؤلاء وأمثالهم تلقوا العلم الشرعي الصحيح عن أهله، ووردوا على موارده المعتبرة، وتفقهوا في دين الله لله لا لغيره، لكانت قلوبهم وعلومهم مدركة لهذه المعاني، ولكانت غير خافية عليهم، ولكن الواقع ان حال كثير من هؤلاء بين دواعي الهوى، ودواعي الجهل بأنواعه، والله المستعان.
وأهل العلم في بلدنا والحمد لله لم يقصروا ولم يفتروا في بيان العلم لطلابه وبذله لراغبيه، فهنا مجالس العلم معقودة في المساجد فضلاً عن المعاهد والجامعات، تقرر فيها أنواع العلوم والفنون التي يحتاجها طلبة العلم من تفسير وتجويد وفقه وحديث ونحو وصرف.. وأهم ذلك نضح هذه البلاد وعلمائها بالعقيدة السلفية تعلماً وتعليماً، ودعوة وجهاداً ونصحاً وارشاداً.
ولكن التقصير من وسائل الإعلام من إذاعات هذه المجالس ونشرها من جهة ومن جهة المتعلمين وعامة الشباب بل ومدعي الثقافة من جهة أخرى في عدم سعيهم للتعلم ولطلب العلم، عزوفاً عنه، او انشغالاً بغيره من أنواع الثقافات الصحفية، والقنوات الفضائية، والإنترنت، او اعجاباً بأنفسهم بما اوتوا من ذكاءٍ لازكاء فيه.
وعليه فلا يجوز نسبة التقصير الى علماء الشريعة بل التقصير في مجمله من غيرهم، لأن أهل العلم باذلون للعلم كل على قدره، وحسب جهده وسعة طاقته.
أما الناحية الإعلامية فإن صوت العلم الشرعي الصحيح صوت ضعيف - خلالها والغالب على الإعلام القصور الواضح في نشر العلم والدعوة اليه والتنبيه عليه، بل اشتغل الإعلام كثيراً بسفاسف الأمور، وباستفزازات تنال من العقيدة والشريعة. ويجب في ذلك كله وجود الرقابة الشرعية العلمية لما يُطرح إعلامياً من ذوي الخبرة والتخصص والتميز العلمي والشرعي، اعان الله على ذلك وعلى كل خير وجانبنا وإخواننا السوء وكل شر. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(*) المدرس بقسم العقيدة بجامعة الإمام |