لا يزال سمو الأمير خالد الفيصل يواصل محاولاته في تحريك الساحة الفكرية.. عربياً: من خلال رئاسته لمؤسسة الفكر العربي التي أسسها قبل أكثر من عامين، ومحلياً: من خلال ما يدفع به من آراء في المناسبات واللقاءات المختلفة، وما ينشر له من مقالات قليلة العدد لكنها بعيدة المدى!
وقد نشرت صحيفة الوطن - قبل نحو الشهر - مقالاً له تحت عنوان «بل تواجه.. وتواجه يا أستاذ العلوم السياسية»، وإعمالاً لحق الرد المكفول عقب الدكتور خالد الدخيل أستاذ العلوم السياسية بجامعة الملك سعود في الصحيفة ذاتها بمقال تحت عنوان «نعم أعرف كل ذلك.. لكني أختلف معك».
وربما تلقت الساحة المقال الأول بارتياح لأنه أنعش الذاكرة الوطنية بأحداث قد يغيب بعضها عن علم الكثيرين، ومن ذلك واقعتا إبعاد السفير الأمريكي في عهد الملك سعود ثم في عهد الفهد الحاضر، ولعل هذا - وحده - يقوم دليلاً على أن السعودية - على عكس ما يروج المرجفون - تقيم علاقاتها الدولية حتى مع أمريكا على مبدأ الندية وحرية القرار والحفاظ على الكرامة الوطنية، كما تضمن المقال مواجهات ربما لم ترسخ في ذهن الأجيال الجديدة التي لم تعايشها، فمن عايش أحداث حربي 1967 و1973م يدرك على نحو أوضح حقيقة الدور السعودي في الحسابات العربية والاقليمية والدولية.
وحسنا فعل الدكتور الدخيل حين بادر منذ عنوان مقاله بالإعلان عن معرفته لكل ما ذكر الأمير وذلك بقوله «نعم أعرف «كل» ذلك».
مؤكداً للذاكرة الوطنية تلك الحقائق التي نفض الأمير عنها غبار الزمان، وعن البعض الآخر ستائر السرية والكتمان، وليصبح مقال الرد بعد ذلك استعراضاً شديد الوهج للقدرات التعبيرية لدى مثقف مختلف مع من ظنه «السلطة»! وذلك بقوله.. «لكني أختلف معك» ولست أزعم أني بصدد تقييم التجربة بين الأمير المثقف وأستاذ الجامعة السياسي وردود أفعالها في المحيط الفكري للأمة، لكني رأيت أحقيتها بالتسجيل «متكاملة» باعتبارها نموذجاً ساطعاً لحرية الرأي مهما اختلفنا حوله خطأ أو صواباً.
استعرض مقال الأمير أمثلة للمواقف التي واجهت فيها المملكة أحداثاً داخلية بدأت بالمواقف الثلاثة التي جاءت في تتابع زمني مع مراحل توحيد البلاد وقيام الدولة.. وأحداثاً خارجية مع المد الشيوعي في المنطقة العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين والعدوان الثلاثي على مصر 1956م، وحربي 1967 و1973م، والعدوان العراقي الصدامي على الكويت، كما أورد المقال مواجهتين دبلوماسيتين كان المستهدف فيهما سفيراً وأي سفير.. إنه السفير الأمريكي ذاته!
فهل دولة تجرؤ على مواجهة القوة الحاكمة للعالم يمكن أن تتوانى عن طرد دبلوماسي إذا ما ارتأت ضرورة ذلك؟! كما تحدث المقال عن مواجهات المملكة للإرهاب قبل وبعد أحداث 11 سبتمبر.. وحتى الآن، ومواجهتها للسعار الإسرائيلي على الفلسطينيين وللحملة العالمية الشرسة على الإسلام والمسلمين، وأخيراً مواجهتها للتحالف الغريب بين تنظيم القاعدة، والمد الصهيوني في الإدارة الأمريكية.
أما مقال الرد فقد بدأ متذمراً من افتراض نيات مبيتة وعدم الاعتراف بحق الآخر في الاختلاف وكذا من حدة المقال، ثم يمضي على فرضية الاشكالية المزمنة بين السلطة «العربية» وبين المثقف والتي تريده صوتاً لها لا عليها ولا مستقلاً! كما ينص على الدبلوماسية السعودية أنها لا تميل إلى الصدامية في علاقاتها مع الدول الأخرى، ضارباً المثل بأن المواجهة السعودية الرسمية لا تتناسب مع حجم الهجمة المنظمة ضدها من قبل الإعلام والكونجرس وبعض الرسميين الأمريكيين، ويعزو ذلك إلى فقدان السياسة السعودية التوازن المطلوب بين الآليتين العسكرية والسياسية في استراتيجيتها الأمنية! كما وصف الدكتور الدخيل مواجهات المملكة لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي ذكرها الأمير بأنها مواجهات سياسية فُرضت على المملكة! وأخيراً يقرر أن الفضائية التي جرى حديثه معها هي أفضل محطة اخبارية عربية في مهنيتها! ويقر بأنها تستهدف - من ضمن ما تستهدف - السعودية! ثم يتساءل: لكن هل يستدعي الأمر مقاطعتها، ويعقب بأنه بدلاً من المقاطعة لابد من توفير بديل إعلامي منافس وأن تترك صناعة خطابه لأناس من خارج الدولة!
وما إن ظهر مقال الرد حتى بادر الأستاذ محمد صادق دياب في صحيفة «الاقتصادية» بمقال تحت عنوان «خالد الفيصل.. الرأي في مواجهة الرأي» يقول فيه «لكن الأميرخالد.. بسلوكه هذا يضرب المثل على ما يشهده الوطن من اتجاهات لمواجهة الرأي بالرأي، ومقابلة ما تذهب إليه بعض الأقوال بالحقيقة بعيداً عن الأساليب السلطوية المعتمدة في العالم الثالث!» بل إنه ينادي بأن يصبح مقال الأمير مثالاً يقتدي به المسؤولون في التعامل مع الطرح الإعلامي.
ثم تبنت «الوطن» ردود الأفعال فكان مقال الأستاذ وائل مرزا الباحث في السياسة والإعلام تحت عنوان «في دلالات «الحوار» بين الأمير وأستاذ العلوم السياسية» يؤكد أن المقالين يمثلان دليلاً ساطعاً على عملية التغيير الايجابي الذي تشهده البلاد «وأن ما جرى يمثل حواراً صحياً جداً وفي غاية الايجابية» طبقاً للقناعة بأن رؤيتي المقالين تخدمان الصالح العام» وإلا لو لم تكن مثل هذه القناعة موجودة لكان من السهل ألا يرى مقال الدخيل النور إطلاقاً! أما مقال الأستاذ محمد ناصر الأسمري فيقول «لقد سعدت بتفاعل خالد الفيصل المسؤول الرسمي الذي لم يشغله المنصب عن الحراك الفكري والإسهام في تجلية بعض ما يعتري طروحات المثقفين وقادة الرأي من بعض الخلل في نقص لمعلومة أو سياق فكر، مؤكداً أننا لسنا بلد مواجهة عنترية.. أما أننا دولة مواجهة في ساعات النضال القومي عربياً وإسلامياً - فنحن شعب ودولة - لنا مواقف في التاريخ لم يعد لشدة ضوئها مجال لحجب الرؤية، بل هي مجهرة لفاقدي البصر، وأشار الكاتب إلى كتاب له حول بطولات الضباط والجنود والمتطوعين السعوديين - من كل أطراف الوطن - في الدفاع عن فلسطين وكذا إلى سجل الشرف الذي رصد فيه فهد المبارك عن هؤلاء، ومضى المقال في سرد بعض وقائع المواجهات التي ذكرها الأمير مضيفاً إليها مواجهة الفتنة الطائفية في لبنان التي أطفأت المملكة نارها باتفاقية الطائف بعد خمسة عشر عاماً دموياً خسر فيه لبنان الكثير وبعد أن تعثرت محاولات الوفاق طويلاً، ومؤخراً رفضت المملكة انطلاق العدوان الأمريكي على العراق من أراضيها، وآخر المواجهات الاحتفال في الخرج بمغادرة بقايا القوات الأمريكية.
أما مقال د. عبدالعزيز الثنيان فقد جاء مؤكداً ما ذكر الأمير من مواجهات، وعن خصوصية المملكة وتفردها يتساءل: «وأي دولة على الأرض اليوم «غير السعودية» تجعل شريعة الله دستورها وتخصص للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أجهزته، ويتوقف العمل فيها إذا نادى المنادي للصلاة؟».
ويؤكد الدكتور الثنيان أن التحدي الخطير الذي تواجهه المملكة من الصهيونية المسيطرة على الإدارة الأمريكية، يفرض على كل سعودي أينما كان موقعه وحيثما كان توجهه ومهما اختلف مع الدولة في الرأي أن يكون يقظاً ومدركاً للأخطار وأن يدعو لاجتماع الكلمة ووحدة الصف.
ويأتي مقال الدكتور علي الموسى لينفي عن الأمير الصفة السلطوية مؤكداً أن ورود مفردتي السلطة والمثقف كان نشازاً في مقال الرد الجميل، لأن الأمير إداري في منطقة لا علاقة بها بالموضوع فلم يكن متحدثاً باسم وزارة الخارجية أوالداخلية أو الإعلام، ولكنه كتب مقاله كمواطن شاهد البرنامج التلفزيوني ورأى من واجبه الوطني أن يرد عليه من المخزون المعرفي المعلن والمجهول، وأنه لا وجه للحجر على الرسميين أن يدلوا في القضايا الوطنية العامة، مختتماً مقاله حالماً بأن يكون في بلدي «السعودية» مثل هذه المساحة المشرعة للحوار الجريء.
|