عندما أنقم من الوسائل الاعلامية كافة، او من طائفة من المفكرين، او من احد من الادباء او النقاد الحداثويين او الحداثيين على سنن المفرقين بين صيغتي حداثي وحداثوي فإن محل النقمة لايمتد الى الامكانيات الذاتية ولا الى الايجابيات المخلوطة بالعمل السيىء، ولا تستدعي النقمة الاستغناء عن مستجدات العصر: الحضارية والمدنية، ولا تقتضي العودة بالأمة الى الخيمة والجمل والسيف والرمح، وليس شيء من الاعتراضات مؤشر ماضوية، كما يحلو للبعض ترويجه، ولا احسب عاقلاً رشيداً يقطع بمحض الخير او الشر، بحيث يعمم النقد، ويستبعد الفائدة، ويستغني عن المستجدات، والقائلون بمثل ذلك متحاملون يفقدون العدل والمصداقية، وما اكثرهم في مشاهدنا الثقافية والفكرية والادبية، ومع تجاوز السلب والايجاب فإن بعض تلك المحدثات اثمها اكبر من نفعها، مبئسةً: ولاية ونصيراً، وكل هذه الاشتات جزء مما نعايشه مع «قنوات الفضاء» و«مراكز المعلومات» و«وسائل الاعلام» ومن رابه الأمر فلينظر الى تداعي الترديات على كل المستويات.
و«القنوات الفضائية» بوصفها ظاهرة توعوية سريعة التأثير، قوية الاثارة، ضالعة في التشكيك والتفريق والتلبيس والتدليس فإنها مع كل الامكانيات والدعم السخي وتهافت المنتفعين والموتورين والاضوائيين تمر بفراغات موضوعية تضطرها الى الافتعال والانفعال والتنقيب في الخبايا والزوايا بحثاً عن قضية وهمية يتلهَّى بها الشارع المتعطش لكل مثير، والرأي العام حين تتوتر اعصابه، وتحتقن مشاعره، وتشتد وطأة المشاكل والاحباطات عليه، يحتاج الى صمامات امان تقيه احتمالات الانفجار، ولقد ضحكنا قليلاً من مسرحيات ساخرة هادفة، وابهجنا تصورنا الساذج انها مبادرات بريئة لحرية الرأي، وبكينا كثيراً حين تبين لنا فيما بعد انها جرعات مهدئة، يعمد اليها الممسكون بأزمة الأمور، كي تخدر الألم، ولا تحسم الداء، وفوق هذا فإن الطرح الاعلامي لا يتهافت عليه المشاهدون الجوف إلا حين يوغل في النيل من أهل الحل والعقد، على حد:
«إنَّ نصفَ الناسِ أعداءٌ لمن
ولي السلطة هذا إن عدل»
ولقد أطلَّت علينا بعض القنوات بأسلوب التباكي على وضع الانسان «العراقي» وكأنه المعذب الوحيد في المشهد السياسي العربي، وجاءت الدعاية للموضوع على طريقة التساؤل المنتفخ الاوداج: من يعتذر للشعب العراقي: العرب الذين سكتوا، أو واطؤوا النظام الصدَّامي، او تعتذر المعارضة التي جسَّرت الفجوات لقوات التحالف؟
وعلى كل التصورات فإن الشعب العراقي مع أنه ظالم ومظلوم في آن، لا ينقصه الاعتذار، وحاجته الملحة في الانقاذ مما ألم به جراء الاحتلال والفراغ الدستوري واليقظة البشعة للفتن النائمة، وما قتل الشعوب العربية إلا فيوض البلاغة والتعويل على الكلمة ونقيضها، فإذا أدين العرب، أو أدينت المعارضة، وحملوا أو حمل احدهما على الاعتذار المشهود، أيكون في ذلك إنهاء للمعاناة؟ أحسب اننا بمثل هذا نعيش مرحلة الظاهرة الصوتية.
و«القنوات الفضائية» التي لاتجد ما تحمل الناس عليه من قول فصل تمارس الزعيق الأجوف، لا تزيد الأمة إلا ارتكاساً في وهدة الشقاء، فالجعجعة الكلامية التي تجيد صنعها، يقابلها حز الى العظم، ينتاب مفاصل الأمة العربية، فالصهاينة يحرقون الأرض، ويكسرون العظم، ويهتكون العرض، ويزهقون الأنفس البريئة، ويجتاحون المدن، ويغلون الأيدي، والأمة العربية تعايش الهرولة والتطبيع، وتختلط عندها مشاعر الحزن والغضب، وحراس الحرية والحقوق الانسانية كما يزعمون يواطئون المعتدي، بحيث يعدُّون المقاومة إرهاباً والإرهاب دفاعاً عن النفس، واللاعبون الضالعون في الخطيئات ينفضون أيديهم من لعبة، ويباشرون أخرى، وكل لعبة يظهر معها الفساد في البر والبحر، وتتجرع الشعوب العربية مراراتها، ومعاناة الأمة العربية لاتنتهي بانتهاء ويلات الشعب العراقي، الذي تبدت عذاباته يوم اقامة حكومته الجائرة، ويوم ضعنها، وماتبع ذلك من حلّ لجيشها، وإلغاءٍ لإعلامها، وتفرُّقِ الممسكين بأزمة الأمور بين قتيل وسجين وخائف يترقب في مخبئه، والنابشون للعفن السياسي يتهافتون على المعذرين من فلول النظام سعياً وراء التلميع والتمييع، وإذا لم يكن هناك موقف محدد من الأحداث والمحدثين تساقطت القيم كما ورق الخريف، وذلك ما نعايشه.
إن معاناة «الشعب العراقي» قائمة ما اقامت دول التحالف التي تتصرف في الشأن العربي كله، وتسري في جسم الأمة كما الخدر: إما بالقوة حين تبدو للعيان، وهي تجوب الشوارع، وتمخر عباب البحر، وتخترق الأجواء، أو حين تلوِّح بها، أو حين تهدد بفرض العقوبات التي تقضي على الكرامة والحيوية، او حين تفرض على الحكومات المستضعفة ما لا قبل لها باحتماله، او حين تدفع بها الى المواجهة الاعلامية او العسكرية، وعلى كل الاحوال تضع عليها الاصر والاغلال، ولا تضعها عنها، وتحدد لكل شعب آليته العسكرية التي لاتخل بالتوازن، ولغته الاعلامية التي لاتكشف السوآت، ومداولاته الاقتصادية التي لاتؤثر على المكتسبات، وهي لاتقنع حتى يكون الشعب رجلها التي تمشي بها، ويداها التي تبطش بها، وإذا امرته اطاع، واذا سألته اجاب، وهو اذا نقل شكايته الى المؤسسات العالمية ومنظمات حقوق الانسان ماسمع في أروقتها الا «الفيتو» او الامتناع عن التصويت، او الوعيد والتهديد بقطع المعونات، وإذا لفظته المنظمات خارج اسوارها خاسئاً وهو حسير لم تسمع منه إلا الحمد والشكر والثناء والصبر والاحتساب، وكأنها «عزة» التي يدعو لها المتعذب:
«هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ
لعزة من أعراضنا ما استحلت»
وإذا بدرت من ذلك المسكين «التيمي» هنةٌ كاللمم قامت الدنيا ولم تقعد واصبح كما عدو «ابن محمد»: الخائف في اليقظة والمنام، يخوف بالمقاطعة، ويرهب بالمطاردة، ويقتاد الى محكمة العدل الدولية ليحاسب على القطمير، ومجرمو الحرب انتقائيون، ذلك ان مفهوم الاجرام يتم وفق مواصفات خاصة، بحيث يكون «احمد ياسين» مجرماً يؤخذ بالنواصي والاقدام، فيما يكون «شارون» مسالماً يؤخذ بالاحضان، وفوق ذلك فإن من مجرمي الحرب من منح «جائزة نوبل للسلام»، والأمة العربية المقهورة تسمع، ولا تجد بداً من ان تصدق، وإن لم تفعل عرضت نفسها لويلات لا قبل لها باحتمالها، يزامن تلك الويلات استخفاف اعلامي مطاع، فالاعلام العربي عبر قنواته الفضائية وأنهر صحفه اليومية ومن خلال مواقعه المعلوماتية لا يفتأ يتهم أهله، ويطلب من أمته المغلوبة على امرها الاعتذار، وكأنها الاقدر على منع الاحتلال والحيلولة دون حل حكومة العراق، متناسياً اختلاف الزعامات العربية حول الاسلوب الأمثل لإخراج «العراق» من «الكويت»، غافلاً او متغافلاً عن سوءات الحضارة الغربية التي ينظر اليها وكأنها قطب الجلال والجمال والطهر والنقاء، ولو ان الاعلام العربي استبد ولو مرة واحدة وقال كلمة الحق، ولو ان الأمة في زمن المحنة هبت وقاطعت الحكومة العراقية، لما قضي الأمر بأيدٍ أجنبية، استمرأت فيما بعد ممارسة الوصاية والتدخل في أدق الخصوصيات.
وإذا كانت تلك القنوات تُفيض على الانسان العربي بهدير كالرغاء وصهيل كالحمحمة، وتمارس جلد الذات المهترئة، وتستمرئ كشف العورات المؤذية، فأين هي من منظمات تسائله عن قتل امرئ في غابة، ولا تسأل غيره عن قتل شعب آمن، ومنظمات «حقوق الانسان» و«مجلس الأمن» و«هيئة الأمم» و«محكمة العدل» وسائر المؤسسات التي افرزتها ويلات الحرب العالمية الثانية، ما اريد بها وجه الحق، اذ نراها تطارد الانسان الثالثي عند كل صغيرة وكبيرة، واذا طرق ابوابها لتنصفه من اكلة لحوم البشر، كلَّ متنه عند ابوابها الموصدة، واذا نكص على عقبيه، لحقت به لتقضي امره، وتتصرف في شأنه، مشرعنة للأقواء تصريف شؤونه، غير عابئة بكرامته، ولا معتبرة لحريته، هذه المنظمات تريد للعالم الثالث ان يعيش متذيلاً لغيره، لا يُعدُّ قوة ترهب، ولا يخطط لزراعة ولا لصناعة تغنيان، وكل اهتمامها منصب على السلخ والمسخ والتمييع والتلميع والإلغاء، فهي تطالب بإلغاء التعددية «الأيديولوجية» والحضارية والعمل على التجنيس بالتبعية لا بالاختيار، وكيف تتحقق حرية الاديان وارادة الشعوب، ويعم الامان دونما ايمان صادق، يجسده الإقرار والقول والعمل و:
«إذا الإيمان ضاع فلا أمان
ولا دنيا لمن لم يحي دينا»
والإسلام حضارة، والمسلم له حقوق، وعليه واجبات، ومن حقه امتثال مقتضيات عقيدته، وعلى الاقوياء احترام التعددية «الايديولوجية»، غير ان المنظمات الموجهة ب«الريموت» تسلبه الحقوق، وترهقه بالالتزامات، ولا تتركه وشأنه، والإعلام العربي كما «براقش» مهمته ان يجني على أهله، والدين أي دين، والحزب أي حزب، والمذهب أي مذهب التزام بالمبادئ والمناهج، واحترام للثوابت، وما لا يقوم الاسلام إلا به فهو عراه التي لا يجوز نقضها، ومن حق الشعوب ان تُلزم نفسها بما تفرضه «الأيديولوجية» المختارة، ومن واجب المنظمات ودول الاستكبار احترام مشاعر الشعوب واعرافها، فهل تحملت تلك الحضارة الغربية مسؤولياتها الانسانية وعدلت بين الظماء، واتقت الارهاب بمنع اسبابه؟ وما اسبابه إلا الكبت واللعب الكونية.
إن هناك صراعاً أزلياً بين الشرق والغرب، صراعاً «أيديولوجياً» وصراعاً «حضارياً» وصراعاً «استراتيجياً»، ومراوحة بين الحرب الباردة والساخنة، ومع انه بالامكان اعتزال هذه الفتن، واغلاق النوافذ لصد الاعاصير الا ان عالمنا يهرع اليها سواء دعي او لم يدع، وسواء كان من مصلحته ان يخوضها او لم يكن، ولأن هذا العالم الغريب يوظف كل امكانياته للحروب الكلامية والعسكرية بالأصالة او بالإنابة فان المتصارعين يتخذون من انسانه دروعاً بشرية ومن أرضه ساحة قتال ومن مقترفاته مشروعية تدخل، والقارئ للتاريخ الحديث يقف على محطات لاينفع فيها التمويه ولا التبرير، وفي ظل هذه الترديات لاتحسم الاشكاليات العصية بالاعتذار للإنسان العراقي، وإن كان لابد من اعتذار فإنه حق للإنسان العربي، فمن يعتذر له؟:
الغرب بكبريائه وغطرسته وتحريشه وايقاظه للفتن او صياغتها.
او الشرق برعونته ومغامراته وتخاذله.
او حكام العالم العربي بجورهم وظلمهم
او المفكرون العرب بكذبهم وتضليلهم
بل اكاد اقول: أيعتذر الانسان العربي من ذاته لذاته، فهو الذي ظلم نفسه، وظلم ذوي قرباه، فمن نفذ مظالم الحاكم العراقي، ومن الذي سام العراقيين سوء العذاب، اليسوا من ابناء جلدتهم، والتاريخ السياسي الحديث يؤكد ان المتأذي من المجازفات والمغامرات انما هو الانسان العربي بما فيه الانسان العراقي، إذ لم يكن الانسان العراقي وحده من مسه الضر، وغفل عنه من تجمعه بهم العقيدة واللغة والتاريخ والأرض، والمواطن العراقي يحتمل ما يحتمله الانسان العربي، فهو الذي صنع الصنم، وهو الذي خاض معه كل الحروب، وهو الذي هب معه لاجتياح «الكويت»، وهو الذي سام ابن جلدته سوء العذاب، وهو الذي اقام الحجة على نفسه، وإن كانت حجة واهية، اتخذها القطب الواحد ذريعة للاحتلال العسكري، ودول التحالف الذين اعلنوا الاحتلال، ليستغلوا مقتضياته، لم يستأذنوا المعارضة العراقية، ولم يستفتوا الانسان العربي، ولم يكتسبوا الشرعية من المنظمات، لقد كذبوا على شعوبهم، واضلوهم بدعوى القضاء على سلاح الدمار، وتحرير الشعوب، وإقامة العدل والحرية، وهم حين اقترفوا ماهم مقترفون احسوا بخطأ التصرف، ولكنهم وصلوا بسياستهم الى مرحلة اللاعودة.
لقد جاء الإيذاء من كل جانب، لفحات تؤزها الأحقاد والضغائن، ويطال لهبها القاصي والداني والبريء والمذنب، فكان الايذاء حروباً أهلية وحدودية، وكان إفكا يشكك بالعقائد والأفكار والنوايا، وكان احلافا تضر بالمصالح، وتعرض الأمن والاستقرار العربي للاضطراب، وكان تنفيذاً للعب: إقليمية وكونية، وكان كبتا للحريات، ومصادرة للحقوق، ومغامرات طائشة، جلبت الفقر والفاقة، وعوقت الخطط، وأضاعت المقدرات، وتشتت الكفاءات البشرية ومقدرات الأمة في آفاق المعمورة، وكان غلوا في الدين ووقاحة في العلمانية، تؤزها أيد خفية، وكان جهادا حين كان في السرب وارهاباً حين غرد خارجه، وكان من قبل ومن بعد اعلاماً مضللاً يفرق ولا يجمع، ويستعدي ولا يصد، ويشيع قالة السوء ولا يعف، ومع كل ما هو قائم فإن في الكأس بقية، وباب الأمل مفتوح، فهل يعقب الاعتذار تحرف راشد، يستبينه أهل الحل والعقد قبل ضحى الغد؟ ارجو ذلك.
|