Monday 6th october,2003 11330العدد الأثنين 10 ,شعبان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

يارا يارا
بياض الورقة
عبدالله بن بخيت

سادت في فترة من فترات الثقافة في بلادنا كلمة البياض. يقف الكاتب أمام بياض الورقة لا يعرف كيف يغامر بالكلمة الأولى. فالكلمة الأولى في المقال هي القيد الذي يبدأ فيه الخيال بالضيق تدريجياً حتى يصل إلى مرحلة التحجر. عندما تكون الورقة بيضاء تماما يكون أمامك الكون كله بكل مواضيعه. تستطيع الكتابة عن السياسة عن الحب عن الكيمياء عن الشعر. ولكن ما أن تخط الكلمة الأولى حتى تضع هذا الكون في مسار ثم تليه الكلمة الثانية حتى تتضح صورة هذا المسار ثم تضيق المواضيع التي تكتبها لتجد أن كل ما تستطيع ان تقوله لا يعدو ان يكون كلمتين مهما صرخت بها لن تجد من يسمعها كما تريد.
وهذا هو أمر الحياة كلها. فالإنسان يبدأ بالتفكير في حياته مع إطلالة وعيه الأول، يستلقي على الفراش ثم يجوب العالم: هل سيكون تاجرا وزيرا لاعب كورة كل هذا ممكن وبلا شروط. ولكن ما أن يضع نفسه على عتبة الواقع كالالتحاق بالجامعة حتى يضيق العالم الذي كان قبل أشهر فسيحا لا نهاية له. وكلما كبر الإنسان شعر انه يتنازل عن أحلامه وتطلعاته حتى يكتشف في وقت من العمر انه قبل بأقل العروض وأن العالم الذي كان فسيحا صار مجرد مساحات من الوهم اخترعها في لحظة تجلٍّ.
في كل مرة أفكر فيها بالكتابة أفكر بهذا. فأنا أعرف بعد كل مقال أن ما قلته لا يعدو ان يكون مجموعة من القيود في صورة كلمات. لا أتذكر أنني أنهيت مقالا واحدا وأنا جذلا. كل ما قلته في حياتي هو صورة باهتة لما تمنيت ان أقوله. فالعالم كما يقول احد الكتاب هو رمز أكثر منه واقعاً. فأي شيء هو رمز لشيء آخر. أي شيء في هذا الكون لا يمثل نفسه وإنما يرمز إلى شيء آخر. فالليل إشارة للظلمة والظلمة إشارة للحزن والحزن إشارة للمأساة والمأساة إشارة للألم وهكذا. فكل شيء يكتبه المرء هو إشارة لشيء لم يكتبه. ملاحقة لوهم لا ينتهي أبدا. فالخيال وهو ملجأنا الأول عند الملمات نراه ينهار مع أول خطوة نخطوها في داخله. نكتشف أنه هش لم يكن في يوم من الأيام شيئاً مصنوعا من خارج الواقع. كل شيء فيه هو تكييف وتعديل لما هو موجود على الأرض. وهذا ما يدفع كثيراً من الكتاب أن يقول إنه يكتب ليعيد تشكيل الواقع بل قال بعضهم إنه يكتب لكي يدافع عن نفسه وعن وجوده تجاه شيء مجهول لا يعرفه، أو أنه يكتب ليحرض العالم لكي يتغير. فصورة العالم دائما غير مرضية ولا تقنع أحداً وتحتاج دائما الى صيرورة متغيرة لا تتوقف عن التغير.
إن بياض الورقة أو بياض الشاشة نعمة نتخلص منها بمجرد أن نضع عليها الكلمة الأولى. ولكننا لا نملك الخيار إلا أن نخط الكلمة الأولى إذا أردنا أن نكون مع الآخرين. فالبياض على نصاعته هو عزلة مغرية يجب أن ننهيها. لا يهم كيف ولكن علينا أن نكتب ونكتب ونطارد البياض بالكلمات حتى لا نعترف بأننا ضحايا الوهم.

فاكس: 4702164

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved