هبّ أنكَ الآن باحث علمي فذٌّ وقدمت مقترحك البحثي Proposal لجهة رسمية أو غيرها لتحصل على دعم تنفيذ مشروعك العلمي في السعودية أو في أي بلد آخر، سيكون منح إجازة بحثك وتمويله مرفقاً بشرط مدى فائدة هذا البحث ونفعه المباشر من وجهة نظر الجهة الممولة.. ثق أنه لن يعار أي اهتمام لما قد يصل إليه بحثك من ابتكار أو معارف كانت مجهولة. إنه باختصار مقتضب، مفهوم البحث العلمي في عصر العولمة أو ما قد يطلق عليه في أحد أبعاده التقنية عصر المعلومات وعصر الاتصال وعصر ما بعد الصناعة، وقد يسمى على المستوى الفكري عصر ما بعد البنيوية أو التفكيك أو ما بعد الحداثة أو ما بعد الإيديولوجيا.. الخ. وإذا كنت ترى أن هذه «المابعديات» أو بعض مفاهيمها لم تصل إلينا، بعد فأنت واهم!
تتمثل العولمة بإحدى صورها في حالة تسليع الأشياء ومن بينها تسليع العلم.. وذلك في الدول المتطورة وتتبعها مفهومياً وواقعياً دول العالم قاطبة. لقد أصبحت أهداف ووسائل ومن ثم نتائج واستدلالات البحث العلمي التجريبي سلعة تحتكرها مؤسسات معينة أو الشركات العملاقة متعددة الجنسية أو حتى الشركات المحلية الكبرى فالبحث العلمي يمول غالباً من هذه المؤسسات مما يهدد تنوع الابتكار لأنه أصبح منحصراً في رغبات تلك الجهات فمثلاً الشركات العملاقة المنتجة للأدوية أو المبيدات الزراعية ستمول الأبحاث المتصلة فقط بمنتوجاتها أو أدوات انتاجها، وهذا يعني حصر همم المبدعين والعلماء والإبداع البشري بشؤون ورغبات مرتبطة بمنافع تلك المجموعات.
وبالمقابل، فإن الأبحاث العلمية البحتة أو التي تؤتي أكلها بعد حين من الزمن أو تلك التي تُعنى بشؤون حماية البيئة والمجتمع تتعرض للإهمال وضعف الدعم ومن ثم خبوت محفزات الابتكار. هنا تصبح نتائج العلماء والباحثين التي لا تحبذها أو لا تهتم بها جهات التمويل صعبة الإثبات نتيجة ضعف الدعم وذلك يستتبع أن يغدو العلم منفصلا - ولو جزئياً - عن تطلعات المجتمع ومبادئه العليا لأنه ارتبط بالمفهوم المباشرللنفعية وحسابات الاستثمار والتكلفة من جهات التمويل، وأصبحت شرعية العلم تقاس بمدى تلبية الاحتياجات.
ويترتب على ذلك حالة من التناقض بين العلم كمنتج يمتلك مشروعيته من ذاته المعرفية التنويرية بعيدة الاثر وبين العلم كمنتج نفعي مباشر يمتلك مشروعيته من فائدته لأغراض معينة مما يعني دخول البحث العلمي ساحة الانحياز لهذه الأغراض المرصودة سلفاً، بينما أهم صفات ومشروعية البحث العلمي هي الدراسة المحايدة.. فعندما يصل الباحث إلى نتيجة مضادة لرغبات الجهات المحتكرة أو حتى لقيم العموم فإنه قد يحكم عليها بالموت البطيء بسبب الإهمال من تلك الجهات وتبعية العموم، وما يساعد على ذلك ان العلم ليس هماً عاماً، كالقضايا السياسية أو الفكرية العامة، بل هو شأن نخبة متخصصة.
وللمقارنة التأريخية كان العلم إبان الثورة الصناعية في الغرب وألق الحداثة رديفاً للتحرر وكان التطور العلمي متبوعاً بالتطور الاجتماعي لذا دافعت تلك الشعوب عن العلم والبحث التجريبي فاكتسب العلم مشروعيته المصلحية من المجتمع وضروريته الحتمية للتحرر والتقدم وليس من كونه معرفة أفلاطونية مثالية، وإن كان لها بعض تأثير.. فالعلم نور كما جاء في الأثر. آنئذ استند البحث العلمي التجريبي إلى مفهوم نفعه الحتمي لينال دعم الدولة والعموم الرأي العام خاصة مع ارتباط العلم بالفلسفات الكبرى بينما في زمن العولمة أو ما بعد الحداثة ومع فك الارتباط بين الفلسفة والعلم ودخول هذا الأخير في تخصصات ضيقة تزداد تفككاً عن بعضها ويحمل كل منها لغة محدودة التخصص انكشف الغطاء فلم يعد التقدم العلمي مرادفاً بالضرورة للتقدم الحضاري أو العدالة الاجتماعية أو التحرر ،ليس ثمة صلة محددة بين ماهو علمي وماهو أخلاقي أو قانوني أو تقدمي. المفارقة التاريخية هنا هي أن العلم كان ضرورة للتحرر بينما الآن نحن ندافع عن الحرية البحثية لأنها ضرورة للعلم الذي أصبح رهينة رأس المال وسلطة التكنوقراط بقربهم من النفعي وبعدهم عن الثقافي.
إذن الحتمية العلمية أو الثقة المطلقة بالعلم بمفهومها الحداثي قد انهارت لأن التخصصات المتشعبة والتراكم الهائل للتجارب البحثية وتطور أدواتها أظهرت في بعض الحالات تناقضاً في نتائجها بين فروع العلم، بل وصل التناقض إلى ذات التخصص الضيق.. فمن باحث توصل إلى أن الطعام الفلاني أو المادة الفلانية مسببة للسرطان يقابله باحث آخر وجد ان ذات الطعام أو المادة مضادة للأكسدة أو السرطان!! وأصبحت هناك مناهج علمية مختلفة للوصول إلى الحقيقة.. وصارت نتائج البحث العلمي احتمالية وليست حتمية، مما يعني ان الحقيقة متنوعة وهذا أفقد البحث العلمي اسطورة ارتباطه بالحقيقة وحيث ان السوق المسيطرة الداعمة للبحث ترفض هذا المنطق العلمي العشوائي أو نظرية الفوضى والعشوائية في الرياضيات بحكم حاجتها لنظام واضح يحدد المفيد وغير المفيد بغض النظر عن مدى صحته أو اقترابه من الحقيقة.. وبالتالي تقمع الابداع وطبيعته الانفلاتية، ومع سيطرة رغبات السوق الحرة المفتقرة للاخلاقيات والمبادئ أصبح تقييم شرعية البحث العلمي يستند إلى مدى فاعلية البحث وليس على مدى صحته أو على مدى اكتشافه معارف مجهولة وبذلك يكون العلم خاضعاً لمفهوم الربح والخسارة، ومن ثم رهينة دعم الجهات المتنفذة ويستتبع ذلك ان المنظومة العلمية - من طلبة وباحثين وعلماء وإداريين ومشرفين - التي تميزت بمبادئها وتقاليدها العلمية، تتحول إلى جهاز انتاج براجماتي ضحل علمياً يلهث وراء رغبات السوق.. إذن وبموافقة الأغلبية أصبح العلم سلعة تباع وتشترى!! وتعد الحالة الأمريكية نموذجاً لذلك.
ختاماً، كيف يتحرر العلم من آليات مجتمع العولمة الرأسمالي؟ هناك محاولات إجابة متنوعة ومختلفة لا يتسع المجال لها.. أهمها إجابات مناهضي العولمة فهناك من يرى ان العولمة من فوق التي تتزعمها الشركات متعددة الجنسية يمكن مجابهتها بعولمة من تحت عن طريق التضامن الشعبي (جيري بريشر، تيم كوستيلو، براندان سميث) ويشابههم من يطالب بانشاء بنوك معرفية للجماهير (ليوتار وسيد سلامة) وتلك تحتاج وقفة أخرى أما نحن الباحثين العرب البؤساء فكأنه لم يعد يكفينا ان مجتمعاتنا تزدري البحث العلمي الجاد حتى تأتينا العولمة وتزيد الطين بلة!!
|