|
يولد الإنسان منا، وهو لا يختلف في مرحلة طفولته عن سائر المخلوقات الأخرى، حين يحاول التخلص والانطلاق من سائر الأرباق التي يقيده بها مربوه في مهده، حتى إذا شب عن الطوق، واستكمل نموه ونضجه، وإدراكه ووعيه، وسعى بجد نحو الانفلات والانعتاق من القيود الاجتماعية، حينئذٍ ينشب العراك والصراع بينه وبين بيئته الخاصة التي لا تراه إلا ما ترى، أو ما يفرضه العرف العام من العادات والتقاليد والأوهام، ولا يجد هذا الإنسان أمامه إلا ان يعيش حياة رتيبة قوامها المحاكاة والتقليد والتصنع، والتمظهر بمظاهر زائفة، بعيدة كل البعد عن ذاته المستقلة وتفكيره الخاص المساير لزمانه، فالأعراف الغت المساحة الحرة المهيأة لاختلاف الناس، في طبائعهم وأمزجتهم، ونزعاتهم وأذواقهم، وميولهم واتجاهاتهم، فالاختلاف في حقيقته حيال هذه القضية هو سر الجمال وامارة الكمال فيما أرى. أما التبعية في نهج الحياة فلن يخلق أجيالاً حرة، تثق بشخصيتها وتنبري للدفاع عنها، هذه مشكلة اجتماعية وتربوية في الوقت ذاته، ستستمر في المجتمعات الإنسانية، وتستشري فيه، ما دامت تقيم وزناً للأعراف والمظاهر والمصطلحات الاجتماعية والمتع الجسدية العابرة التي يوفرها المال، وتدفع اليها عوامل الأثرة والتعالي وذيوع الصيت، وبخاصة لدى أبناء الطبقات الثرية أو المقلدة لها من أبناء الطبقات الكادحة، والتي بات أكثرها يرسف في أغلال اجتماعية، لا سبيل للتحرر منها، وليس من بين هذه الفئات من له الجرأة والإرادة والحرية المطلقة، ليعيش كما يشاء، ويتصرف كما يحب، بعيداً كل البعد عن أي مؤثر، سواء في مسكنه أو مطعمه أو مشربه أو ملبسه أو علاقاته الاجتماعية على اختلاف ضروبها وتعدد أشكالها، فالتحرر من سطوة الفقر في الواقع لم تساعدهم في الخروج من مأزق حياة الترف والغناء التي أعمت بصيرتهم وأبصارهم، وأخضعتهم من غير اختيار للعديد من المطالب والاعتبارات، التي تنتفي معها القناعة والرضاء والاكتفاء، هذه حياة مقلقة بكل المفاهيم، أفقدت هذه الفئات راحتهم وهناءهم، ومررت عيشهم، وحرمتهم لذة الطمأنينة والسعادة وراحة البال، والاستمتاع بين الحين والآخر بالعزلة والانفراد، والتأمل والتفكير في جو هادئ مريح، يتيح لهم تغذية عقولهم المكدودة، ونفوسهم المرهقة، ناهيك بانشغالهم بهذه التقاليد عن واجبهم الديني والاجتماعي تجاه الأبناء، على نحوٍ أفقدهم الصلة العاطفية بآبائهم، وصرفهم عن المبادىء العظيمة في تراثهم فحل محلها الجفاء والنفور والعقوق، وذابت القيم أمام وهج المادة وبريقها. |
[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة] |