Saturday 4th october,2003 11328العدد السبت 8 ,شعبان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

داء الزهايمر.. نقمة النسيان! داء الزهايمر.. نقمة النسيان!
عبدالعزيز السماري

لم يعد انتقال إنسان إلى العالم الآخر خبراً محدوداً، فقد قادت وسائل الإعلام مهمة نشر الحزن ببراعة، فالإنسان بفضل ظاهرة القرية الكونية أصبح في حالة من الكآبة، ويعيش في قلب الأحداث، وما من يوم يمر إلا يجيء بأمر نهاية إنسان، وكم هو مؤلم أن يفقد إنسان شخصاً عزيزاً عليه.. إحساس متعب بألم الهزيمة والوهن والاستسلام أمام معجزة الحياة،.. لكن ديننا الحنيف علّمنا أن نواري حزننا بعد أيام، ثم نمضي إلى الغد، حيث رحابة الأمل، وعنفوان القوة، وسحر القدرة على تحقيق الإرادة والطموح، وحلم الوصول إلى الهدف..
والإنسان قد يختفي من بيننا وإن ظل في كامل هيئته ولم يوار جسده التراب،.. تذهب مشاعره، وتذوب ذاكرته، ويفقد أحاسيسه، ويبقى جسداً بلا عقل، بعد أن ينتهي بهدوء شديد.. وتبدأ رحلة النهاية في هذه الحالة حين تغزو خلاياه العصبية قوى مجهولة، لا تزال تعتبر في عالم الطب والاكتشافات لغزاً محيراً، وتحدياً صعباً.. إنه داء الزهايمر قاتله الله،.. ذلك الداء الذي يغتال العقل، ويفترس خزائن الذاكرة ببطء، ليختفي الإنسان خلالها وينتقل بهدوء إلى عالم آخر لا نعلم ماهيته وتفاصيله، ثم تتقطع جميع وسائل الاتصال معه،.. وفي رحلة عقله وذكرياته إلى الزوال، يبقى بعض من تلك الملامح الدافئة والمتدفقة حنانا، يرسلها إلينا تارة، ولكن ما تلبث إلا أن تختفي تارة أخرى، فإذا توارت داهمتنا مشاعر القلق والخوف من أن تختفي إلى الأبد، وإذا عادت راودتنا أحاسيس الشك في حقيقتها،.. لنصل إلى حالة لا ندرك على وجه اليقين فيها ما يكمن وراء تلك النظرات والملامح؟، وهل بقيت لها جذور في خزائن الذاكرة أم هي مجرد غلاف جميل لذاكرة تتلاشى..ومع مرور السنين تتساقط بقايا الحروف، وتتغير الإشارات وتتبدل المعاني في تلك اللوحات الجميلة، ثم تتضاءل وتختفي للأبد بعد أن كانت لعقود خلت، تحمل ألف معنى ومعنى جميل في ذاكرتنا..
والمصاب بمرض الزهايمر ربما لا يشعر بما يحدث له من اغتيال وغدر لخلاياه العصبية، فهو يستمر في تذكر الأحداث والمعاني القديمة لفترة زمنية متفاوتة، ثم يجتاح المرض الخزائن القديمة للذاكرة والمشاعر والإحساس.، ويفقد كل معاني الأفعال ووظائف الأشياء التي اعتاد أن يستخدمها يوميا خلال عشرات السنين، إلى أن يصل في نهاية الأمر إلى نسيان كل شيء، فلا يعد يتذكر أعز الناس لديه، ويفقد من ذاكرته للأبد صور أقرب الناس إليه، وإن خرج من مكان ما، يصعب أو قد يستحيل أن يعود إليه في المراحل المتقدمة..
والذاكرة في حياة الإنسان ضرورة لاستمراره وارتباطه بالزمن.. فهي راحلة تسافر في الامتداد اللامنتهي للزمن.. تغرق في الماضي لإغناء الحاضر، وتحتفظ بالمعطيات الراهنة من أجل تحويلها إلى محطات بارزة في المستقبل، تحدد هوية الإنسان وعلاقته بالعالم وأفعاله وأحلامه ومعارفه، وتمده بما يحاول أن يستدعيه في لحظات شرود الذهن، والذاكرة بالنسبة لعلماء الأنسجة العصبية، هي الدعامة العضوية للذكريات، ووحدة في غاية الدينامكية، تعمل انطلاقاً من قنوات متصلة، وتتشكل من مليارات الخلايا العصبية المتشابكة. ولكن منذ أن بدأت الأبحاث الطبية حول الدماغ ووظائفه المتعددة تأخذ حيزاً في العقد الأخير، ظل الباحثون يركزون اهتماماتهم على نظام التذكر، ويتركون منطقة «النسيان» مظلمة لا يقترب إليها فضولهم العلمي، لكن زيادة نسب المسنين في الغرب، وازدياد نسب داء الزهايمر عادت لبيولوجيا النسيان أهميتها في مراكز الأبحاث، ورصدت الميزانيات الضخمة لفك غموض أسرار الذاكرة والبحث عن مسببات داء الزهايمر.. أو نقمة النسيان..
ونعمة النسيان تتكون من بعدين اثنين أحدهما نسيان كلي والآخر نسيان عابر أو إخفاء الذكريات، وتعتقد مجموعات أبحاث طبية أنها توصلت لبيولوجيا جزئية النسيان، وحددت تركيبة ذلك البروتين الذي يحافظ على تماسك الذاكرة من خلال إعادة برمجتها بمساعدة برنامج النسيان الشديد التعقيد، أو ذلك الإنزيم الذي يؤدي الدور المطلوب لحفظ التوازن لوعي الإنسان وذاكرته، فيمسح بعض المعلومات، ويخفي أخرى.. وهكذا.. والإنسان يأتي للحياة يحمل في عقله الصغير مختلف أدوات للتعلم وقنوات للمعرفة ومساحات للتذكر والنسيان التي تجعله قابلاً للتكيف والاستجابة لمتطلبات الحياة، ويشترك مع الحيوان في القدرة على تعلم ردود الفعل والانعكاسات للتأثيرات الخارجية، والتي تتحول لسلوك يتميز به، تختلف هذه القدرات عند الحيوانات حسب نوعها، لكن الإنسان يتميز بقدرته على تعلم الأسماء، قال تعالى: {وّعّلَّمّ آدّمّ الأّّسًمّاءّ كٍلَّهّا}.
والأسماء هي تلك الإشارات اللفظية للمعاني والمشاعر والصور التي تحمل دائماً معنى مختلفاً نوعا ما حسب المتلقي،.. تتراكم وتتطور حسب نشأة الإنسان لتكون اللغة بكل ما تحمله من عمق ذات أبعاد متعددة في المعنى والشكل والشعور والإحساس. والإنسان يتمتع بقدرات هائلة لتخزين المعلومات، والتي قد تكون إشارات لفظية أو حسية.. تتمثل ككلمات أو صورة معبرة أو رؤية سياسية أو اقتصادية أو حقيقة علمية أو بيت شعر جميل..
وعادة تنتقل تلك الصور والعبر والمعلومات إلى مرحلة الذاكرة القصيرة الأجل، التي تتراوح من دقائق إلى أسابيع ثم تتحول إلى الذاكرة الطويلة المدى، حيث تختلف هذه الميزة من إنسان لآخر، ويشكل تكرار التجربة عاملاً مهماً في قدراتها. وقد تختلف معاني الأشياء أو الأحداث من شخص لآخر، فلكل اسم أو إشارة لفظية تراكمات لمعان مختلفة من شخص لآخر، وذلك حسب مرجعيته الثقافية أو البيئية أو اللغوية.
واللغة هي ذاكرة الإنسان بكل ما يحمل من معان وروابط مباشرة وغير مباشرة للأشياء والصفات والمعاني وتتفرق مواضع المعاني اللفظية أو الحسية في الدماغ وتتواصل بشبكة غاية في الدقة، وقد تستدعي كلمة واحدة يسمعها الإنسان صوراً مختلفة وتعبيرات وأحاسيس ارتبطت عبر تراكم متتابع في حياة الإنسان. وتتفرق مصادر إثارة المعاني بين حواس الإنسان ولكن تبقى الكلمة مصدراً أهم في مراحل التلقي والتعلم بكل تفرعاتها المباشرة وغير المباشرة، والتي توفر للإنسان القدرات والمهارات التي تجعله قادراً على الاستمرار ضمن دائرة العقل أو الوعي بمتطلبات الحياة البشرية المتغيرة.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved