عصفت بي الذكريات نحو «البكيرية» مدينتي الصغيرة، استقبلتني منذ أن تفتحت عيناي على الدنيا، وكانت بجانبي إلى حين ودعتها، إلى العاصمة الصاخبة، فكانت المقايضة غالية جداً، فقدنا على أثرها الصحة بسبب تلوث البيئة وتتابع موجات الغبار، والهواء المحمل بدخان المصانع وعوادم السيارات.
وكلما زادت الحضارة في المدينة نقص المستوى الصحي لسكانها بفعل التلوث بلا ريب!! بينما هناك في تلك المدينة الغافية على صدر نفود «الغميس» وما يحمله من رومانسية وهدوء كنا نتدفق صحةً وعطاء ونشاطاً.
وكان الجهد الجسدي المبذول - ونحن صغار - يتفوق على الجهد الفكري بكثير، فلم تكن الدماء تهدأ في عروقنا، فهي أبداً تجري وتتدفق باستمرار وعفوية، دونما أدوية أو عقاقير. عدا «المُرَّة والحبة السوداء» نتناولهما بمتعة! ويبقى الملح بالعين دواءً، وعقاباً، حين لا نصغي لتوجيهات الوالدة!! وكانت الوجبات لابد وأن يتخللها التمر واللبن دون إحساسٍ بالملل من تكرار هذه الوجبة حيث يتم تشكيل اللبن إما حليباً خالصاً بارداً، وإما حاراً حسب فصول السنة، وإما زبادياً متماسكاً دون مواد إضافية، أما «المراصيع» مع السمن المنزلي، فهي الوجبة الرئيسة في الظهيرة من صنع يدي أمي، تعجن وتهلل وتسبّح وتدعو الله أن تكون «مداخيله العافية»!!
تُرى كم عدد الأمهات اللاتي يمارسن العجن ويعددن الوجبات اليوم لأسرهن دون تذمر؟!!
ولو تعلم كل أم يعاني أبناؤها من أوجاع البطن وآلام الأسنان، وصداعٍ دائمٍ حتى للأطفال، لأدركت أنها تهدم أمة قوامها هؤلاء الأبرياء الذين يأكلون من يدي الخادمة، أو عامل المطعم الذي يمارس غسل يديه ولا مانع من غسل رجليه على العجين في تراجيديا محزنة ومخزية، وهو يسخر بأمةٍ تأكل من صنع أيادي غيرها!! فلا لوم إذاً حين يعاودني الحنين إلى مدينتي الصحية «البكيرية» وتجتاحني غائلة الفقد للهدوء النفسي الذي يسكننا ونحن أطفال، فلم نكن نعاني من حالات الطفش والفراغ الملازمة لأطفال اليوم على الرغم من ندرة أو انعدام وسائل الترفيه آنذاك! عدا تلك الأحذية نجوب فيها بأصابعنا الصغيرة أرجاء البيت كناية عن سيارات تسير بمحركات علوية!! وقد تشتعل شرارة الفتنة حين تتقابل سيارتان في مسارٍ واحد ويبدأ أثناءها العناد، ليتم الصلح على يدي الوالدة التي تهددنا بالحلف على أمرٍ مجهول، ويبقى حلفها أمراً مقدساً!! هذا ويعد الجيران من أكبر وسائل الترفيه وقتذاك، فلا يكاد الغريب يفرّق بين أبناء الأسر في الحي الواحد إن لم يُدقق في الشّبه، فالنمط متقارب من حيث الشكل العام باللبس وطريقته وبساطته ناهيك عن تشابه المنازل، عدا تلاصقها بحميمية تشحنها عواطف سكانها، نقيض الجيران الآن فهم - في مجملهم - لا يعدون عن كونهم جدراناً أسمنتية وأسواراً أنيقة معزولة حرارياً وعاطفياً فيما بينهم، فلا يكاد المرء يعرف عدد أفراد أسرة جيرانه، فضلاً عن معرفته بآلامهم وهمومهم!! بينما في ذلك الزمن الجميل لم يكن الجار أباً لأسرته فحسب؛ بل يشترك كل أطفال الجيران في هذه الأبوة، فلا يكاد واحدهم يفرّق بالمعاملة بين أولاده وأبناء جيرانه، فالحلوى توزع بالتساوي، كما التوجيه والإرشاد «والتعنيف» إن لزم الأمر وكأنه قد أُعطي وكالة من بقية الآباء..
وإن حدّثتك عن تناول الوجبات سوياً مع أبناء الجيران سواء في منزلهم حين يحضر الأكل ترى والديهم يمنحوننا شيئاً من الخصوصية لعلمهم بدوافع الحياء التي تمنعنا من التهام الطعام بحضرتهم، وعندما يصادف وقت الطعام وهم في منزلنا تجد والدينا يمنحونهم كل الخصوصية في تبادل للأدوار الإنسانية ذي نسقٍ عجيب! ولم يحدث قط أن جدَّ في البحث ربُ أسرة عن أولاده فحدودهم المكانية والزمانية معروفة.
وما كنت لدينا حين يحلو اللعب وقت الظهيرة فيستلقي جارنا الشيخ على فراشه «في الليوان» طلباً للراحة وبحثا عن البرودة، يلف شماغه على عينيه، وعكازه بجانبه، ومهفته تتفلت من بين أصابعه حين يغفو، وفجأة، يقطع عليه إغفاءته مرور سربٍ من الأطفال، ليستيقظ هلعاً - من غير تذمر - فيدعو لهم بالصلاح وما ان يغلبه النعاس حتى يعود السرب مرة أخرى قافلاً مع الطريق نفسه، وهكذا دواليك، حتى يؤذن لصلاة العصر فيتوضأ ويذهب للمسجد ولا يؤوب إلا بعد صلاة المغرب بعد أن يكون حضر «المجلس» المنعقد كل عصر في السوق. وحضوره المتزامن مع التسبيح والتهليل يعدُّ إيذاناً بعودة كل طفلٍ إلى منزله. فأي مكان للأمراض النفسية وحالات الطفشِ التي يشكو منها أبناؤنا اليوم؟! وهل ثمة مجال للغزو الفكري الذي يتعرض له أطفالنا عبر القنوات الفضائية والإنترنت والبلاي ستيشن؟!
والآن والذكريات تعود بي وبكم إلى ذلك الزمن الجميل ومرتع الصبا لنكتشف - ونحن مدركون - أننا استبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير: صخب وحضارة زائفة عبثت بصحتنا، وشوشت أفكارنا، ومسخت أشكالنا.
أفلا من عودة إلى ذلك الزمن الطيني، نشم رائحته، نشكو له تتابع هزائمنا، وإرهاصات هذا العصر الجائر بمتطلباته، وتسارعه وقسوته؟!
صديقتي «البكيرية»: لم أنسَ قط أنني غبّرتُ قدمي في شوارعك بحثاً عن مجهول، وحين لم أجده، أو هكذا خُيِّل لي! رحلتُ وتركتك بحثاً عنه، لأكتشف أخيراً أنه يسكن بين طرقاتك، ويقبع في أزقتك، وها هو يقع الاختيار عليك «المدينة الصحية الأولى في الشرق الأوسط» فعمَّ كنتُ أبحث إذاً؟! أليست السعادة في الصحة؟ أليست الصحة هي الحياة؟!
لقد ضللت الطريق إلى الحياة!!
عفوك.. ها أنا ذا أعتذر عن عقوقي.. أفلا من صفح؟
أعطيني رأسك - يا صديقتي - لأقبله!!
ص.ب: 260564 الرياض: 11342
|