كانت اسرائيل تعاني أشد المعاناة من جفاء الإعلام وتمرده عليها، وعدم تقبله لخطها السياسي.. وكان ذلك بعيد تسلم أرئيل شارون رئاسة الحكومة الاسرائيلية عام 2000م.. وقد كانت الانتفاضة الفلسطينية تخسر أطفالها ونساءها وشيوخها كل يوم وينزف الدم الفلسطيني في كل ساعة على الأرض الفلسطينية.. وتصدت وسائل الإعلام العربية والدولية لمواقف الظلم والقتل والتجريف والهدم الاسرائيلية فبثت مساحات كبيرة من التغطيات التلفزيونية والصور الفوتوغرافيّة التي جسدت معاناة الشعب الفلسطيني وكرّست ملامح الاحتلال الاسرائيلي.. وعلى الرغم من هذه المعاناة للشعب الفلسطيني، الا أن القضية الفلسطينية جنت مكاسب إعلامية وسياسية كبيرة.. وهذا ما دعا اسرائيل إلى ان تعيش أزمة مع الإعلام، وخصوصاً الإعلام الأمريكي.. ولهذا أيقنت الحكومة الاسرائيلية ان حربها ينبغي ان تكون أولاً وثانياً وثالثاً مع الإعلام.. فمن الممكن ان يؤدي الإعلام إلى تدمير صورة اسرائيل في العالم وبالذات في العالم الغربي.
وهكذا انطلقت جهود كبيرة من داخل الحكومة الاسرائيلية بقيادة شارون من أجل إحداث انقلاب في التغطيات الإعلامية عن اسرائيل.. وهذا ما حدا بالحكومة ان تتعاقد مع شركة «روبنستاين أسوشيتس» التي يقع مقرها في مدينة نيويورك، والتي يديرها هوارد روبنستاين.. وهي من كبرى شركات العلاقات العامة في الولايات المتحدة، ولها جهود كبيرة في دعم الوجود اليهودي/ الصهيوني هناك، ابتداء من تكريس مفاهيم الهوليكوست، ومروراً بدعم السياسات الاسرائيلية لدى مراكز النفوذ في الولايات المتحدة.. فماذا حققت هذه الشركة وغيرها من انقلاب في توجهات وسائل الإعلام الدولية؟ وكيف وصلت آلة الدعاية الاسرائيلية إلى مستوى مهني عال في التعاطي مع الشأن الإعلامي المحلي والدولي..؟
1 إخضاع القرار السياسي والعسكري الاسرائيلي للمناورات الإعلامية التي تقترحها الشركة من خلال خبرائها الإعلاميين، فيتم توجيه الساسة والعسكريين إلى التناغم مع مظاهر الحملة الإعلامية.. وعلى سبيل المثال أمرت الشركة جيش الاحتلال الاسرائيلي ان يطهر وينظف مباشرة مظاهر العنف الاسرائيلي من الشوارع والطرقات بعد احتدام العنف والمظاهرات مع الفلسطينيين.. لأن بقاء مثل هذه المظاهر «السيارات المحروقة.. وعجلات السيارات المحروقة» يهيئ فرصة مواتية لمندوبي الإعلام وشبكات التلفزة العالمية ان يتخذوا من مظاهر العنف والمظاهرات خلفيات حية ومصورة ومباشرة لإعداد تقاريرهم الإخبارية.. فوجهت الجيش الاسرائيلي ان يقوم مباشرة بسحب هذه المظاهر من الشوارع، من أجل منع مثل هذا النوع من التغطيات التي تعكس مظاهر تسيء إلى الصورة الاسرائيلية في العالم.. كما أن هناك مظهراً آخر وتدخلاً آخر من شركة العلاقات العامة في الشأن العسكري.. حيث اقترحت ان يتم طلاء الأعيرة المطاطية التي تستخدمها القوات الاسرائيلية بلون برتقالي أو بنفسجي يكون عند إطلاقه واضحاً لكمرات التلفزة العالمية.. وذلك لإعطاء انطباع معين ان القوات الاسرائيلية لا تسعى إلى قتل الفلسطينيين ولكن إلى منعهم من التدافع حولها.. وعندما يرى المشاهد مثل هذه الأعيرة غير النارية، فإنه يحسن الظن بإسرائيل.. ويتم التشويش على صورة تناقلتها وسائل التلفزة العالمية من إصابات لأطفال فلسطينيين ومشهد حملهم إلى المستشفيات والدماء تسيل على أجسادهم..
2 ساهمت شركات عديدة للعلاقات العامة موالية لاسرائيل بما فيها هذه الشركة في بلورة مجموعة من الأفكار الإعلامية التي يمكن استخدامها من قبل الاسرائيليين عندما يخاطبون وسائل الإعلام.. وقد قامت هذه الشركات مجتمعة بعمل مشترك عبارة عن استفتاءات وبحوث مسحية داخل الولايات المتحدة لمعرفة الفكرة والموضوع والكلمة الأكثر تأثيراً على الرأي العام الأمريكي.. وجاءت هذه الوفود الإعلامية إلى اسرائيل لتلتقي بأكثر من ألف شخصية من مختلف ألوان الطيف السياسي داخل اسرائيل لتدريسهم مقولات محددة يجب تكرارها، وكلمات معينة يجب تكثير استخدامها عبر التصريحات واللقاءات والتعليقات الإعلامية.. ليكون لهذه التصريحات تأثيرها على مجريات الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص.. بهدف استعادة ثقة الناس بما يقوله الاسرائيليون.
3 تأسيس مركز معلومات وطني، وإسناد ذلك إلى شخصية مهنية إعلامية داني سيمان، ويقوم هذا المركز بأعمال خطيرة لتوجيه وسائل الإعلام إلى تبني الصورة المقاربة للموقف الاسرائيلي.. ويقع هذا المركز في فندق ديفيد انتركونتننتال بتل أبيب.. حيث يوجد في هذا المركز الكبير تجهيزات اتصالية وحاسوبية وكوادر متخصصة عالية المستوى.. لاستقطاب مراسلي الوكالات والتلفزة العالمية وتقديم كل سبل الدعم والمساعدة لهم.. وكذلك توجيههم إلى مواقع وأشخاص داخل التركيبة السياسية العسكرية الاسرائيلية يكون لتصريحاتهم أكبر الأثر في شرح المواقف الاسرائيلية والتأثير على الرأي العام العالمي.
4 يعمل هذا المركز على توحيد الرسالة الإعلامية الموجهة إلى الداخل الاسرائيلي والى العالم.. حيث يتمثل عدد من مسؤولي الأجهزة المعنية في الإدارة والتنسيق لأعمال المركز.. فهناك مندوبون عن وزارة الخارجية والجيش الاسرائيلي وقوات الأمن ومكتب رئيس الوزراء وأجهزة الاستخبارات الاسرائيلية.. وغيرهم ويتم التنسيق الكامل في توجه هذه الأجهزة وتنسيق عملها لتبث رسالة إعلامية واحدة.. حيث قد عانت اسرائيل من تضارب رسائلها الإعلامية الدعائية تجاه بعض الأحداث في السابق.. ومن هنا نلاحظ خلال الأشهر الماضية ان أي متحدث اسرائيلي لأي جهاز وأي مسؤول اسرائيلي يكرر نفس الأفكار والكلمات والمصطلحات ضمن خطة مدروسة لتكريس وجهة نظر وموقف اسرائيلي واضح.. وقد لاحظنا ان أي حادث أو تفجير للفلسطينيين يعقبها متحدث اسرائيلي واحد في العادة يصرح لوسائل الإعلام بعد دقائق فقط بأن «هذا هو عمل إرهابي وان اسرائيل تحمل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مسؤولية هذا التفجير ومن حق اسرائيل ان تدافع عن نفسها وعن مواطنيها».. هذه العبارات أصبحت محورية في تصريحات كل الاسرائيليين.. ونحن العرب أدركنا خطورة تكرارها وتكريسها في وسائل الإعلام.. وأدت فعلا إلى ثلاث نتائج خطيرة أثّرت على مجريات القضية الفلسطينية:
أ ربط متواصل لما يدور داخل الأراضي الفلسطينية بما يدور في أماكن أخرى في العالم من أحداث إرهابية.. وان كل أشكال المقاومة الفلسطينية ليست الا من قبيل الإرهاب.. ومع الوقت تحولت في أنظار كثير من دول العالم منظمتا حماس والجهاد إلى منظمات إرهابية.
ب سحب الشرعية من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي يمثل رمز السلطة والوجود الفلسطيني.. ومع الوقت لاحظنا ان هذا ما حدث فعلا حيث تحولت هذه التصريحات الاسرائيلية إلى أفعال سياسية تبنتها الولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى على استحياء.
ج إعطاء غطاء شرعي للعمليات العسكرية الاسرائيلية ضد المقاومة الفلسطينية وكأنها دفاع عن النفس وعن المواطنين الاسرائيليين.. وأصبحت عمليات الاغتيالات لكل فلسطيني هي عملية وقائية تهدف إلى منع التخطيط أو التنفيذ لعمليات إرهابية ضد المواطنين الاسرائيليين «الأبرياء».
هذه مهارات جيش الإعلام الاسرائيلي، تعمل بكل امكانياتها المادية والفكرية والبشرية من أجل تحقيق أهداف اسرائيل، أو لنقل من أجل تحسين صورة اسرائيل في العالم عبر قنوات الإعلام المختلفة.. وينبغي الإشارة هنا إلى أن اسرائيل بدأت تستعيد تفوقها الإعلامي مؤخراً نتيجة هذه الجهود التي ساعدتها
على قلب موازين الحدث وإعادة ترتيب أولويات المنطقة وتكريس مفهوم «اسرائيل الديموقراطية».
رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
أستاذ الإعلام المساعد بجامعة الملك سعود
|