|
|
اليتيمة عندما يشتد بها البكاء بحرقة في الخفاء.. عندما تكاد أحشاؤها تتمزق من فرط الحزن.. عندما تئن المفاصل وتشتكي الشرايين نتيجة لمرارة الظلم.. تبحث بكل ما منحها الخالق من قوة عن الملاذ، الملاذ الذي يلفها بكل معاني العطف والحنان، عندما تبكي اليتيمة التي تبلغ الآن الخامسة والعشرين، وقد عركتها أقدار الحياة إلا أنها ما تزال تلك اليتيمة التي فقدت والدها قبل أن تراه، فلم تلتق عيناها بعينيه، وقبل أن تلامس كفاها كفيه، فلم تذق لأحضان الأب طعما، ولم تعرف لكلمة بابا نكهة.. تلك «الوحيدة» التي عرفت زوج الأم قبل أن تعرف الفطام، وذاقت في الطفولة من الحياة مرها ولم تجرب حلوها.. الحزينة التي حاولت أن تجد الحضن الدافىء لدى والدتها بشتى الوسائل وبحثت بكل الطرف عن البديل عن والدها الراحل، تلك اليتيمة التي صدمت بمرارة الواقع الذي تربعت وسيطرت عليه المصالح، فالأم لم تعد توليها ذلك الاهتمام، وتلك الرعاية لأنها أنجبت أولاداً وهي تضطر للاهتمام بهم أكثر وأكثر لأن زوجها «الغني» ليس متفرغاً لهم، فاعتنت بهم على حسابها، الأم شديدة التسلط ولكنها تملك قلباً طيباً كسرته الأيام فصنعت منها تلك المستبدة القاسية، كانت اليتيمة تطمع في المزيد من الحب الذي لم يفض من قلب أمها، بل أنه من الجميل أن سقطت منه قطرة في الخفاء، ورغم أن والدتها أيضاً حساسة.. إلا أنها من النوع الكتوم.. فتحبس المشاعر وتجيد كتمانها، وحتى الأمومة عندها تكاد تختنق داخلها، ولأنها تسقي أبناءها التربية، فقد تفننت في سقي ابنتها هذه الخصلة حتى تشربتها وتشبعت بها، هكذا أنشأتها إذ علمتها منذ الطفولة المبكرة أن الحب عيب وأن الإفصاح عن أي شعور بالمودة ما هو إلا فضيحة! حتى ولو كانت هذه المشاعر بريئة، حتى لو كانت لوالدتها.. لأخواتها.. لصديقتها، ولعل هذا ما هو إلا عقدة كامنة في نفس الأم منذ الصغر.. فظلت «يتيمة» تبحث عن ملاذ يهون جراحها ويهدئ من شتات ذهنها فوجدته في كتاب الله، فارتاحت الروح وبقيت في النفس تلك الطفلة التي تحتاج حتماً إلى ذراعي الأم الناعمتين اللتين تلتفان على جذعها وذلك الصدر الرحب الذي يستقبلها بكل حفاوة، لم تعانق أمها ولو لمرة واحدة طيلة حياتها.. ربما العلاقة الحسية بينهما اقتصرت على القبلات التي لا تأتي إلا في المناسبات وقد لا تأتي..! فعانقت الورق.. وعشقت القلم وتيمت بالكتابة، ولأنها متأثرة بما علمتها إياه والدتها ظلت تكتب وتمزق، وتبدع وتخبئ، وذلك يوم وقعت يد أمها على وريقة حملت سطوراً عاطفية من ابنتها كانت قد كتبتها إلى المجهول، فثارت وصرخت.. وقالت «يا للفضيحة»!! فازدادت مراقبتها وانتظم تفتيشها في حاجيات ابنتها التي لم تستطع هجر ما تحب وأخذت تكتب في ذات الخفاء الذي اعتادت البكاء فيه.. كل شيء يتعلق بالمشاعر صار عندها بالخفاء، حتى البكاء.. علمتها والدتها إنه من العيب أن تبكي أمام الناس وأن تجعلهم يرون الدمعة، إنه الضعف بعينه، والناس لا يبحثون إلا عن شيئين «الفضيحة ونقاط الضعف»! |
![]()
[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة] |