في متابعة لما جاء في فضائية المستقلّة حول الوهابية، كنت نشرت في هذا المكان قبل فترة وجيزة تحت عنوان: دفاع عن العقيدة، ما كتبه وزير المعارف المغربي، في صحيفة الصّراط العدد الثالث ليوم الاثنين جمادى الثانية 1352هـ.
وهذه الصحيفة تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين برئاسة الأستاذ: عبدالحميد بن باديس رحمه الله وقد كتب المدير الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، تعقيباً في العدد الخامس، وفي نفس الصحيفة التي تصدر في قسنطينة اسبوعياً تعليقاً على ذلك المقال، جلا فيه ما غمض في المقال المذكور.. بتاريخ 26 جمادى الثانية من عام 1352ه..
وقد دار حوار مع بعض الفضلاء، في الموضوع، ورغبوا إليّ نشر ايضاح وتعليق المدير الإداري المذكور الاستاذ السعيدان الزّاهدي، بعنوان: الوهّابيون، سنيّون حنابلة، واستجابة حتى تكتمل الفائدة، اذكر للقارئ الكريم ذلك المقال، كما نشرته الصراط، حتى يظهر الحقّ لراغبيه، وها هو ذا كما جاء لعل الله ينفع به:
نشرنا في العدد الثالث: من هذه الصحيفة فصلاً قيماً بهذا العنوان، لصاحب السعادة الأستاذ الفقيه: سيدي محمد الحجويّ، وزير المعارف بالمغرب الأقصى، ولنا كلمة نعلّق بها على بعض النقّاط من كلام الوزير، ووفاء بالوعد، الذي قطعناه للقراء نقول:
في كلام الوزيرين الحقائق الثابتة ما لا يخفى على أيّ منصف لم يعمه الغرض والهوى، فهو يقرر كما هو الواقع: أن الإمام أبا عبدالله محمد بن عبدالوهاب، الزعيم الأكبر والمجدّد قد برع في علوم الدين. واللّسان وفاق الأقران، واشتهر بالتقّوى وصدق التدّين، عقيدته السّنّة الخالصة على مذهب السلف، المتمسّكين بمحض القرآن والسنة، لا يخوض التأويل والفلسفة، ولا يدخلهما في عقيدته، وفي الفروع مذهب حنبلي غير جامد ويقرر أيضاً كما هو الواقع، ان مبادئ الوهابية التمسّك بالسنة والزام الناس بصلاة الجماعة وترك الخمر، وإقامة الحدّ على متعاطيها، ومنعها منعاً باتاً من مملكتهم، بل منع شرب الدخان وغيره مما هو من الشبهات وغير ذلك من التشديدات التي لا يراها المتشدّدون المترخّصون.. وكل هذا لا يخالف السّنة.
ولكنه مع إثباته لهذه الحقائق قال: وأعظم خلاف بينهم وبين أهل السنة هو مسألة التّوسل وتكفيرهم من يتوسّلون بالمخلوق.. وهذا وهم وهمه سعادة الوزير، فإنه لا يوجد في نفس الأمر أدنى خلاف بين الوهّابيين وبين أهل السنة، إلاّ ما هو موجود بين أهل السنة أنفسهم،..
فالوهابيون حنابلة سنيّون بأتمّ معاني الكلمة، وحسبك انهم ليس لهم كتب مذهبّية، للمذهب الوهابيّ مثلاً: بل كتبهم هي كتب الحنابلة نفسها، وهم حينما نضّموا القضاء الإسلامي في الحجاز، لم يجعلوا محاكمه الشرعية، قضاة وهّابيين، ولكنهم نصبوا فيها قضاة: حنابلة وشوافع وحنفيّة ومالكيّة.
وإذا كان هنالك خلاف، فهو بين المتمسّكين بالكتاب والسنة، من أهل السنة وبين الجامدين منهم، والمتساهلين المترخّصين، الذين يتّبعون أهواءهم،
وهنا مسألة جوهرية، لا بأس بالإشارة إليها، وهي أنَّ كتب الحنابلة، التي يقرؤها الوهابي، وغيره هي كتب سنة وحديث، أكثر مما هي كتب فقهيّة حنبليّة، وهم لا يزالون يؤلفون على طريقة السلف الصالح، وأئمة هذا الدين الحنيف.
بخلاف كتبنا نحن المالكيّة التي يؤلّفها فقهاؤنا المتأخرون، في المذهب المالكي مثلا، فهي خالية من السّنة والحديث، حتى انك لتقرأ كتابا ذا أجزاء من كتب المتأخرين، من أوله إلى آخره، فلا تكاد تعثر فيه على حديث شريف، ولا على أمر من آثار الصحابة رضي الله عنهم.
وبعبارة أخرى: ان كتب الحنابلة المتأخرين، لا تزال كتب سنّة وحديث، ككتب المتقدمين، أمّا كتب المتأخرين من المالكية والحنفيّة مثلاً، فقد خلت كلها أو جلّها من السنة والحديث، بل يسوق لك مؤلفوها الأحكام مجرّدة من كل نظر واستدلال.. ولا يخفى ان كتب السنة والحديث، تجعل قارئها سنيا سلفيا شديد الاتصال بالرسول صلى الله عليه وسلم، وشديد الاتصال بالسّلف الصالح، وبعيدا كل البعد عن التقليد والجمود، وبعيدا عن البدع ومحدثات الأمور.
ومن هذا جاء الخلاف بين الوهابية من أهل السنة الآخرين، إن كان هناك خلاف.
والوهابيون أو حنابلة نجد، لا يقولون بكفر من يتوسل التوسّل الشرعيّ، بل يقولون: بكفر من يدعو مع الله إلهاً آخر.
ومن معاني التوسّل عند الجامدين «من أهل السّنة»: انهم يدعون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرّهم، وأحسب ان من يطّلع على كتاب: «التوسل والوسيلة»، لشيخ الإسلام ابن تيمية، يرى صدق ما نقول.
وهذه العقيدة، ليست عقيدة حنابلة نجد وحدهم، بل هي عقيدة السلف الصالح، وعقيدة أهل السنة جميعا، «ما عدا الجامدين منهم والمتساهلين».
وحسبنا ان مولانا السلطان سليمان سلطان المغرب الأقصى، قد قبل الدعوة الوهابّية وارتضاها، وكان عاقلاً محباً للعلماء ولم يقبلها إلاّ بعد ان أرسل نجله المولى ايهم في وفد من العلماء الأعلام، إلى الحرمين الشريفين في عام 1226ه، وتباحث الوفد المغربيّ، مع بعض علماء نجد الوهابيين، فلمّا تحقّق علماء المغاربة ان الوهابية، ما هي إلاّ التمسك بالقرآن الكريم، وبالسّنة النبوّية الصحيحة، وافقوا عليها، ووافق عليها كلّها المولى سليمان.
وإذا أنت تتبّعت أخبار هذا الوفد، الذي أرسله مولانا سليمان إلى الحجاز، وما جرى بينه وبين علماء نجد من المحاورة، ظهر لك أنّه لا محلّ لهذا الاشتباه، الذي استثناه سعادة الوزير إذْ قال: إلاّ ما كان من تكفيرهم من يتوسّلون بالمخلوق»، فلا داعي مطلقاً لمثل هذا الاستثناء.
ولقد صدق الأستاذ الحجوبي إذْ قال: إن المسألة سياسية لا دينيّة، وان أهل الدين في الحقيقة، متّفقون وان الأتراك العثمانيين، هم الذين أثاروا هذا النكير.. وهم الذين نشروا هذه الدعاية الكاذبة، ضد ابن سعود الأول، الذي كان افتكّ منهم الحرمين الشريفين منذ مئة عام.. وهم الذين استنجدوا بأمير مصر محمد علي باشا الكبير، فعاونهم هذا على طرد الوهابية من الحرمين الشريفين، وعلى أسر ابن سعود.
(للحديث صلة)
الفرزدق والغلام
جاء عند أبي الفرج الاصفهاني: ان الفرزدق قدم المدينة في إمارة ابان بن عثمان، فكان مع جماعة من الشعراء يتناشدون الشعر إذ اقبل غلام أنصاري، فقال: أيكم الفرزدق فقال: من أنت لا أمّ لك فانتسب، ثم قال ولم يسلّم، رجل من بني الأنصار بلغني زعمك انك اشعر العرب، وقد قال صاحبنا حسّان شعرا، فإن قلت مثله صدّقتك وإلاّ فأنت كذَّاب، قال حسان:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن في الضّحى
وأسيافنا يقطرن من نَجْدةٍ دما
وأنشده القصيدة إلى آخرها، وقال له: إني قد أجّلتك فيها حولاً.. ثم انصرف، وانصرف الفرزدق مغضبا يسحب رداءه ما يدري أيّ طريق يسلك، حتى خرج من المسجد، قأقبل كثيّر فقال: قاتل الله الأنصاريّ، ما أفصح لهجته، وأوضح حجّته، وأجود شعره، فمازالوا في حديث الفرزدق والأنصاري بقيّة يومهم، حتى إذا كان الغد، قال أحدهم خرجت من منزلي إلى مجلسي الذي كنت فيه بالأمس وأنا في كثير فجلس معي، فتذاكرنا الفرزدق، ونقول: ليت شعري ماذا فعل، إذْ طلع علينا في حلّة أفواف يمانية موشّاة، له غديرتَان، حتى جلس في مجلسه بالأمس.
ثم قال: ما فعل الأنصاريّ؟ فنلنا منه وشتمناه.. فقال: قاتله الله ما رُميْتُ بمثله، ولا سمعت بمثله، مثل شعره، فارقتكما فأتيت منزلي، فأقبلتُ أصّعد واصوّب، في كل فنّ من الشعر، فلكأني مُفْحمٌ أو لم أقل قطّ شعراً، حتى نادى المنادي بالفجر، فرحلتُ ناقتي ثم أخذت بزمامها، فقدتها حتى أتيت جبل ذباب ثم ناديت بأعلى صوتي: أخاكم أبا لبنى.. قال سَعْدان: أبا ليلى، فجاش صدري كما يجيش المرجل، ثم عقلت ناقتي وتوسّدت ذراعها، فما قمت حتى قلت مائة وثلاثة عشر بيتاً، فبينا هو ينشدنا، إذْ طلع علينا الغلام الأنصاريّ، حتى انتهى إلينا ثم قال: أما إني لم آتك لأعجلك عن الأجل، الذي وقّته لك، ولكنني أحببت ألا أراك إلا سألتك عما صنعت، فقال: اجلس ثم انشده:
عزفت بأعشاش وما كدت تعزف
فلما فرغ الفرزدق من إنشاده، قام الأنصاريّ كئيباً، فلمّا توارى طلع أبوه وهو، وأبوبكر بن محمد في مشيخة من الأنصار، فسلّموا علينا وقالوا: يا أبا فراس، قد عرفت حالنا ومكاننا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصيته بنا، وقد بلغنا ان سفيهاً من سفهائنا تعرّض لك، فنسألك بالله لما حفظت فينا وصيته النبيّ ووهبتنا له ولم تفضحنا (الأغاني: 9: 332).
|