بدأ الظلام يتسرب من خلف النافذة رويدا رويدا، وهو جالس على سريره في الفندق المطل على الشارع العام الذي يرى منه السيارات، بأبواقها العالية والمارة بأصواتهم المختلفة، نهض من السرير ليضيء النور لأن عتمة الظلام حجبت بينه وبين بعض سطور الكتاب الذي يقرأ فيه، يعود من ثم قراءته متمتما في فصول القصة وأدوارها التي أخذت منه أنفاسا طويلة في التدخين، لما فيها من توتر للأعصاب ولذة في المتابعة، ومضت الساعات وهو لم يتحرك إلا لقضاء لازم.. وبعد كل فترة يعود بنهم ليعرف مدى ما وصلت إليه بطلة القصة التي كانت تسكن جبال الألب في فرنسا مع وهمها الماثل في القاهرة.. بينها وبين ذلك الطبيب الذي يسمونه بالجزار لإجرائه عمليات استئصال الرئة والحنجرة وما يليهما من العمليات الجراحية التي تأخذ منه الساعات وهو واقف على قدميه يؤدي رسالته الإنسانية على خير وجه.
انتهى صاحبنا من الجزء الأول من القصة وتناول الجزء الثاني، وكله أمل أن ينتهي منه قبل أن ينتصف الليل، وأخذ يقرأ ويقرأ حتى دقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل.. وقد سرى النوم إلى أجفانه وهو يطرده بدخان لفافته التي لا تفارق أنامله.. حتى اضطر أن يخرج إلى ردهة الغرفة «ببلكونة» ليتنفس الصعداء من جو غرفته الكثيف بدخان لفافاته.
أخذ كرسياً وجلس يتأمل منظر المدينة الهادئ الذي كان قبل ساعات يضج بالأصوات المتعالية من السيارات والعربات والمارة، وقد كان الجو بارداً ونسماته كأنها نتف الثلج تلفح وجهه مما اضطره أن يعود وهمّ بإرجاع الكرسي الذي كان يجلس عليه، إلى مكانه من الردهة.. وفجأة نظر إلى الرصيف البعيد حيث رأى عليه جسداً يضطرب ملتفا بقطعة قماش سوداء.. نسى صاحبنا رداءة الجو.. ولذة القصة.. وأخذ يمعن النظر طويلاً ليتأكد مما يرى.. ولم يجد من بد إلا أن يعود إلى غرفته ويرتدي معطفه ويأخذ درجات السلم وهو يهرول.. حتى نهض موظف الاستعلامات من مرقده.. وبادره بسؤاله.. خيرا يا هذا؟؟ ورد عليه سأصل قريباً وأعود.. ثم فتح باب الفندق كأنه المجذوب يسرع في خطوته حتى وصل الرصيف، وأخذ ينظر بأم عينه وهو لا يصدق بأن ما يراه جسداً مرتفعاً غير ارتفاع جسد الإنسان.. واقترب قليلاً وأخرج إحدى يديه من جيبه ومدها بكل ما أوتي من شجاعة وهز الغطاء الخفيف وهو يقول في رجفة.. انهض يا هذا.. ماذا بك انهض.
وفجأة يرتفع الغطاء ويا هول ما يرى.. إنها امرأة تضع طفلها على صدرها تحتضنه بكلتا يديها لأن ملاءتها لا تكفيه لذا كان يرقد بجانبها..
وأخذت حدقتا صاحبنا تتسعان وهو ذاهل أمام ما يرى.. ثم قال كأنه يهدئ من روعها وهو يهتز من شدة البرد.. ألا تذهبين إلى منزلك لتتقي شر هذا الجو أنت والطفل؟! ولكنها بادرته بسرعة.. ان ليس لي منزل آوي إليه سوى هذا الرصيف.. وليس لي أهل سوى هذا الطفل.. أترحمني وتأخذني حيث تسكن لأني فقدت قبل أيام أبي الشيخ الذي كان يرعاني وطفلي بعد وفاة زوجي، أترحمني يرحمك الله؟؟
تركها الشيخ الواقف وأخذ يعدو كأنه رأى ما يخيف عائداً إلى غرفته في الفندق ليأخذ لها ما لديه من أغطية ونقود.. فأين لصاحبنا هذا من منزل يسكنه وهو سائح.. وبعد أن أودع ذلك الجسد المضطرب من شدة برودة الجو ما يقيه بعض الشيء وبعد أن وضع في يدها بعض النقود عاد إلى غرفته يترنح ألماً من هول ما رأى.. وأخذ مكانه على السرير وهو يدير نظره في أنحاء الغرفة حتى وقع نظره على قصته التي كان يقرأها في متعة ونشاط. فكيف يستطيع أن يقرأ حرفاً واحداً.. ودموعه تسيل من مآقيه تحجب ما يقع تحتهما.. وأخذ علبة سجائره ليشعل لفافته علها تهدئ من روعه وتدخل عليه النوم.. ولكن هيهات!.. حيث أخذت الساعات تمضي سراعا وهو جاث في مكانه لا يستطيع حراكا.. وإذا بضوء الفجر يدخل عليه من خلف زجاج النافذة لينتزعه من نومه المستيقظ ويقظته النائمة.. لاستقبال يوم جديد من أيام الحياة.
|