لا أريد أن أفسد للناس بهجة يومهم وهم يحتفلون بهذه الذكرى الحبيبة إلى نفوسنا جميعاً إلا أنني أريد أن نجعل من اليوم الوطني مناسبة نقف فيها أمام أنفسنا لنسأل بصدق وتجرد: ما الذي فعلناه بالأمس؟ وما الذي ينبغي علينا أن نفعله اليوم لهذا الوطن الذي ما بخل علينا بشيء مما يرفعنا ويعزنا بين العالمين؟
وأحب أن أنبه إلى أن القطاع الشبابي لهذه الأمة هو المستهدف بشكل أساسي بهذا الحديث.
لقد حقق الأجداد - أجدادنا بقيادة الملك عبدالعزيز رحمه الله - معجزة توحيد هذا الكيان الذي كان ممزقاً ومتشرذماً في كيانات قبلية متناحرة، ولو تأملنا بعمق دلالات هذه المعجزة لاستطعنا ملامسة شيء من عبقرية رائد التوحيد، وكيف أنه استطاع أن يؤسس نظام حكم على قواعد القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فهما الأساس الذي تقوم عليه حياة كل مسلم أياً كان المذهب الفقهي الذي ينتمي إليه أو يتبعه، وهما إذاً لحمة تماسك المسلم أياً كان الوطن أو القومية التي إليها ينتمي.
إذن فقد حقق الأجداد - بفضل الله - ثم بفضل وعيهم الذي استطاع أن يتجاوز الأطر القبلية الضيقة المغلقة، وبقوة إرادتهم هذه المعجزة، فأصبح لنا كيان عملاق يحتل أربعة أخماس مساحة جزيرة العرب بأكملها.
ورسخوا نظام حكم شرعي احتل العدل قائمة أولوياته وهذا باب واسع لا يمكن أن تستوعبه هذه المساحة.
ثم جاء الآباء - آباؤنا - فعملوا من ناحية على ترسيخ ما غرسه الأجداد من القيم. ثم أرسوا أسس نهضة كبيرة عبر مشاريع التنمية والتحديث العملاقة، مما منحنا بطاقة الدخول في قلب العصر، والتواجد الفاعل في الأحداث العالمية، فصرنا لاعباً أساسياً في التشكيلة الدولية، ورقماً صعباً لا يمكن تجاوزه في السلم والحرب، وفي حركة الاقتصاد العالمية.
وهذا أيضاً باب واسع لا نستطيع تفصيله هنا.
إلا أن الآباء باختصار أدوا دورهم كاملاً، وفي سبيل تحقيق ما حققوا لنا بذلوا أقصى ما يمكن أن يبذله البشر من طاقة وجهد و نكران ذات، بما يشابه المعجزة.
فما الذي يجب أن نفعله الآن؟
الحركة الثالثة هي التي يجب أن تتجه إليها إرادتنا وعزمنا، فما هي محاور هذه الحركة واتجاهاتها.. هذا ما سنتناوله بإيجاز في التالي:
- أولاً: أننا يجب أن نضع نصب أعيننا دائماً، مهما تشعبت الطرق واختلفت الدروب وادلهمت الآفاق نقطة انطلاق الأجداد الأولى، لحظة التوحيد التاريخية، توحيد هذا الكيان الذي ننتمي إليه، لأن هذه النقطة ستظل دائماً تمثل البوصلة التي نستدل بها في متاهات الأحداث الداخلية والخارجية، ما هي المرجعية التي لن نضل أهدافها مهما شتت بنا الاختلاف.
وأن نضع كل ذلك الدم الزكي الذي أريق من أجل تحقيق هدف توحيد كياننا أمام أعيننا ونجعله حاضراً في ذاكرتنا بشكل دائم.
يجب ألاّ ننسى تضحيات الرجال وأمهاتهم وزوجاتهم وهم يقدمون كل تلك التضحيات الجسام ويبذلون الدم والعرق من أجل هدف يعز أحفادهم، ويحقق لهم مستقبلاً نتمتع نحن الآن بثماره.
ويجب ألاّ ننسى أن ما نرفل فيه الآن من نعيم وما نتمتع به من مكانة اقليمياً ودولياً إنما هو - بعد فضل الله علينا - نتاج تضحيات الأجداد المؤسسين وعرقهم ودمهم ودموعهم.
وأن التفريط في تماسك وتلاحم هذا الكيان إنما هو خيانة ليس لقيمهم ودوافعهم فحسب، بل وخيانة لذلك الدم والدموع والعرق الذي سكبوه بسخاء على مزيج توحيده هذا الكيان الذي نفخر به، ونفاخر به الناس.
- ثانياً: لقد شابت طفرتنا التنموية والتحديثية بعض الأخطاء، وكان لا بد وأن تحدث لأن حجم الطفرة الكبيرة، والمدى الزمني الذي تمت فيه، وهو قصير جداً بكل المقاييس.
كان لا بد وأن تحدث، فيه بعض الفجوات والهنات وأوجه القصور هنا وهناك. فالطموح كان كبيراً والهمة عالية، ولكنا في سباق مع الزمن لضغطه واختصاره.
إذن فليبدأ العمل من هنا، لمعالجة الأخطاء وأوجه القصور التي لازمت تلك النقلة التحديثية، وتلك التي تمخضت ونتجت عنها.
وإن معالجة هذه الأخطاء تحتاج منا شجاعة أخلاقية وجرأة فكرية وفق المناهج العلمية لملامستها بوضوح والاعتراف بها، ومن ثم وضع المعالجات الملائمة لها.
فبدون الاعتراف بهذه الأخطاء والعمل على معالجتها سيستمر تعثر مسيرتنا التي يجب حسب المعطيات المتوفرة، أن تنطلق بسرعة أكبر، وتحقق إنجازات أعظم.
وفيما أعلم - وقد أوضحت هذا أكثر من مرة - وخاصة في كتابي (مغامرة التنمية والتحديث)، فإن الأخطاء التي لازمت الطفرة من ناحية، ونتجت عن الطفرة من ناحية أخرى، أفرزت العديد من الظواهر السلبية، ورسخت الكثير من القيم والمفاهيم والسلوكيات التي يجب علينا رصدها والعمل على تصحيحها، وإحلال بدائلها، حتى يستقيم مسارنا.
- ثالثاً: إننا نحتاج إلى نقلة - ولا أقول - طفرة - ثانية، نقوم فيها بتحديث مؤسستنا ونظمها وترسيخ القيم المؤسسية، وتفعيل ما هو مواكب من نظمنا، وإصلاح وتطوير ما يحتاج إلى ذلك.
يجب أن نعي أننا كدولة وكمجتمع مقبلون مع العالم كله مرحلة جديدة في تاريخ الجنس البشري، وأن هناك العديد من الاهتزازات والزلازل العالمية التي تحدث الآن بسبب التطور النوعي الهائل في تقنية المعلوماتية وثورة الاتصالات، والاكتشافات العلمية المذهلة بعد فك الشفرة الوراثية، وارتياد الفضاء، وطوفان العولمة الاقتصادية والثقافية والسياسية الذي لن ينجو مجتمع ولن تنجو دولة أو ثقافة من تأثيراته التي انتهكت الخصوصيات الثقافية والقومية.
ولن تثبت في وجه هذا الإعصار إلا الدول والمجتمعات القوية، ولا سبيل لتحقيق قوة الدولة إلا بتحديث المؤسسات وترسيخ القيم المؤسسية وإشاعة الثقافة المؤسسية، وتفعيل النظم لتعمل بطاقتها القصوى.
وثمة الكثير هنا مما يمكن أن يقال عن كل أوجه الدولة ومؤسساتها، وقطاعها الأهلي، وقطاعاتها الاقتصادية والثقافية والتعليمية والاجتماعية، مما لا مجال إلى التفعيل فيه هنا، الآن.
- رابعاً: علينا أن نواجه أنفسنا بالسؤال: إلى أي مدى نحن نمحض الوطن الحب الحقيقي الذي يجب أن نمحضه له ويستحق أن نمحضه له؟
أخشى أننا لا نعطي الوطن حقه الذي يستحقه من الحب والإخلاص، وإذا كنا نظن أن التغني بهذا الحب والتفاخر الشفاهي به يكفيان للتعبير عن الحب والانتماء للوطن، فإننا بذلك نرتكب خطأ فادحاً.
إن حب الوطن يتجلى في العمل على رفعته وتقدمه بإخلاص وتفانٍ دون منٍّ أو انتظار مكافأة على هذا العمل أو هذا الشعور.
وأكاد أزعم أن هناك نقصا فادحاً في تربيتنا الوطنية يمكن - بهذا المعيار - أن نلمسه في الكثير من سلوكياتنا وأفكارنا وميولنا العاطفية، ولنكون أكثر صراحة ووضوحاً ألا نجد بيننا من يطغي انتماؤه القبلي على انتمائه للوطن الكبير؟
ألا نجد بيننا الواسطة والمحسوبية في العمل والخدمات؟
ألا يوجد من يرتشي؟
ألا يوجد من يفضل البطالة على العمل بسبب نظرته الاستعلائية والسلبية لبعض الوظائف والمهن؟
ألا يوجد من يمارسون البطالة المقنعة فيقبضون رواتب وظائف لا يؤدونها حقها، ويتسيبون؟
وماذا تسمي مثل هذه الممارسات وغيرها إذا لم نسمها عقوقاً في حق الوطن؟
إن الشخص الذي يقدم مصلحته الشخصية الخاصة، مهما تعارضت مع مصلحة وطنه أو مصالح مجتمعه لم يتلق تربية وطنية تعصمه من هذا العقوق في حق الوطن، وكلنا يعرف أن التربية الوطنية إنما تبدأ في البيت منذ الطفولة، وقبل أن يدخل المدرسة، وانها يجب أن تستمر في كل المراحل التعليمية بما يتناسب والمرحلة العمرية للطالب.
إلا أن الأساس فيها يبدأ بالأسرة حيث تغرس في وجدان الطفل في شكل قيم أخلاقية معينة. فهلا جعلنا من هذا اليوم مناسبة لوقفة مع الذات. وبالله التوفيق...
|