الأحداث الكبرى تبقى محفورة في ذاكرة التاريخ مهما تقادمت الأزمان وتباعدت المسافات وطوى الناس ذكريات تلك الأحداث، وفي مخيلتي أنه مهما تعاقبت من وقائع داخلية وخارجية فستبقى الزيارة التاريخية لصاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني إلى العاصمة الروسية موسكو يوماً مشهوداً في تاريخ العلاقات الدولية التي أصبحت ومع وجود عوامل كثيرة غير مؤثرة بل أصبح البعض ينظر إلى علم العلاقات الدولية من بطون الكتب وقاعات الدرس ومجاملات السفارات والقنصليات ويعتقدون أنه كمادة جاذبة تستطيع تغيير المواقف وتبديل الرؤى وتحريك السياسات الجامدة والخمول الفكري، فهذا وبحسب رأيهم عِلمٌ قد اندرس ولم تبق له قيمة في ظل الأحادية والهيمنة والاتباع بالكُره أو الرضا وقنوع معسكر الشرق صاحب الجبروت والقوة بفتات كيكة النظام العالمي الجديد، ويرى دول الاتحاد السوفيتي سابقاً تتساقط كحبات عقد متناثرة في يوم عاصف الرياح، وهكذا اختل ميزان القوة الرادع وانفردت أمريكا بقيادة بلهاء للعالم، حيث الصراعات والضغائن والحقد الدفين على دولة جعلت من نفسها شرطياً لا تُعصى أوامره حتى تولَّدت من هذه السياسات الطائشة المتصهينة المآلات التي وصل إليها عالم اليوم، وارتجت كفتا ميزان العدل الدولي وسقطت القوانين والقرارات المتلاحقة الخارجة من داخل قبة الأمم المتحدة سقوطاً مريعاً وداستها إسرائيل تارة بالأرجل وأخرى بداء الفيتو اللعين الذي فصَّلته أمريكا وتوابعها بهدف قص أجنحة الدول الأخرى لكيلا تخرج من محبس الإذلال والخنوع، وليس أدل على ذلك من الفيتو الأمريكي لصالح ربيبتها بالشرق الأوسط عشية أن وقف العالم كله ضد قرار نية إسرائيل قتل عرفات أو نفيه خارج وطنه فلم تجد مؤازراً ومناصراً من المجتمع الدولي كله عدا أمريكا راعية حقوق الإنسان وجالبة الديمقراطية إلى بلادنا على أسنة الرماح.
وفي وضع معوج كهذا جاءت زيارة سمو سيدي ولي العهد إلى روسيا لتزيل الكثير من الغبار العالق وتكشف بعضاً من الغموض الذي اعترى العلاقات بين موسكو والبلاد الإسلامية بسبب الفكرة والتمدد الشيوعي ومحاصرة الإسلام وإحراق الشيشان، وهذا المشهد بدا واضحاً جداً للبلدين وهما يفتحان صفحة المنافع ويُحييان من جديد علم العلاقات الدولية ويناقشان أكثر قضايا العالم سخونة فلسطين والعراق ولهيب الشرق الأوسط، كل ذلك في جو ودي وحميمية ومكاشفة لا تعرف حصرية المنفعة الذاتية للبلدين، بل تتعدى خارطة الطريق إلى خريطة واضحة المعالم تُخرج العالم من الإغراق والوحل الذي أنزلته فيه سياسات البيت الأبيض التي تنوء باستفزازات أمريكية للعرب على مدار الساعة مع الإمعان في الاستهانة بخصوصياتهم وتقاليدهم وتراثهم وتربيتهم.
وقد أدركت الحكومة الرشيدة للمملكة أهمية الدور المحوري الذي تلعبه روسيا في العلاقات الدولية باعتبارها دولة عظمى وركناً أساسياً في مجلس الأمن وشريكاً رئيسيا في عملية التسوية الشرق أوسطية النابع من كونها أحد راعيي السلام في المنطقة مما يستلزم استمرار الدور الروسي على الساحة الدولية لتحقيق الرخاء والعدالة والسلام للمجتمع الدولي، وبدورها أكدت القيادة الروسية حرصها على تطوير علاقاتها مع السعودية التي تعد دولة موثرة إقليمياً ودولياً وتشغل واحداً من أبرز المواقع بوصفها زعيماً رائداً في العالمين العربي والإسلامي.
لقد أتت هذه الزيارة الميمونة في إطار سعي المملكة لإقامة علاقات متوازنة مع مختلف دول العالم، وهي خطوة نوعية في اتجاه أن يكون ميزان التعامل لمصلحة الطرفين وبكل العدل وليس المسايرة على الإطلاق مما جعلها تحقق نتائج مهمة على صعيد التوازن في العلاقة التي كانت في استمرار لمصلحة الولايات المتحدة والدول الأوروبية، حيث ستأخذ العلاقة الروسية - السعودية منحى جديداً من شأنه أن يجعل أهل القرار في أمريكا يخلدون إلى بعض لحظات التأمل ويرون أنهم ليسوا وحدهم في الساحة.
ونجد أن زيارة سمو سيدي ولي العهد لروسيا قد حظيت باهتمام بالغ من جانب الأوساط الروسية والإعلامية على حد سواء مع بدء فترة جديدة من العلاقات المميزة بين الدولتين بسبب الجوامع المشتركة والنقاط الإيجابية ولحرص البلدين على التنسيق المطرد بينهما تجاه القضايا الإقليمية والدولية، وأحدثها ما يتعلق بالوضع العراقي وبموضوع الإرهاب الذي تشكو منه المملكة، وستبقى الزيارة ومهما حاول بعض دهاقنة السياسة من تقليل حجم تأثيرها علامة فارقة وسط أحداث هذا العالم الصاخب بالأحداث.
فاكس 014803452
|