* كتب - أحمد الفهيد:
أكد الأستاذ داوود الشريان على ان حماية الثقافة الوطنية لا تعني العزلة ومصادرة الرأي الآخر، كما حث على معاودة النظر في أوضاعنا الثقافية من أجل ايجاد ائتلاف جديد يجمع الثقافة بالاقتصاد. جاء ذلك ضمن الورقة التي طرحها الأستاذ داوود الشريان في ندوة الثقافة والاقتصاد ضمن فعاليات مؤتمر ومعرض أكبر 100 شركة خليجية.
حيث: تعرض الشريان في بداية أطروحته الى مقولة آنتوني سميث مؤلف كتاب «الجغرافيا السياسية للإعلام» والتي يقول فيها: «إن الاعلام هو مرتكز السيادة.. وان المنتجات الثقافية أشد فتكاً في كيان الشعوب من المشروبات الغازية والهامبرجر، ولا ريب في ان الاستقلال القومي يرتكز الآن أكثر من أي وقت مضى الى القدرة على اتخاذ قرارات مستقلة تتعلق بتداول الاعلام، أو تداول الأفكار، ولذا اكتشفت شعوب كثيرة الآن ان السيادة والهوية القومية والاستقلال لا تنشأ فقط بقرارات رسمية لكنها تنشأ بالأحرى من الظروف الثقافية والحياة الاقتصادية».
واستطرد الشريان: ليس هذا تضخيما لدور الاعلام في نقل تيارات وأفكار العولمة إذا اعتبرانا ان «الثقافة هي البيئة الاجتماعية والفكرية التي يتكون فيها تفكير شعب، وأسلوب حياته وقيمه وسلوكه»، وإذا عرفنا ان الاعلام بات الوسيلة الأهم في تكوين هذه البيئة، وما يبث في وسائل الاعلام اليوم ليس سوى مظهر من مظاهر السلوك والعادات والقيم المقبولة في المجتمع الذي انتجت فيه هذه المواد، وعلى هذا الأساس فإن ثقافة المجتمعات التي لا تنتج موادها الثقافية والاعلامية تختفي مع الوقت، أو تصبح هجينا عاجزاً عن الصمود أمام ثقافات الأخرين أو التأثير فيها.
هذه ليست دعوة الى الانغلاق ورفض التيارات الثقافية الأخرى، وليست دعوة لمحاربة الحرية باسم الوطنية، فضلا عن ان الحرية المطلقة في استهلاك وتعاطي الأفكار والمعارف الحديثة في ظل اختلال موازين القوة والتأثير والتقدم التكنولوجي، والهيمنة الاقتصادية والعسكرية لا تعني إلا شيئاً واحداً: الغلبة لتيارات الثقافة الغربية والغزو الثقافي والمعلوماتي. ناهيك عن ان «العقائد والتيارات المعرفية الحرة لدى أمة مسيطرة ليست بالضرورة مواتية للحرية في الأمم التي يسيطر عليها».
إن حماية الثقافة الوطنية لا تعني العزلة ومصادرة الرأي الآخر ومنع حرية الاختيار والتعبير، ولا تعني قمع الابداع بدعوى الاغتراب، كما انها لا تعني أيضا تحويل وسائل الاتصال الحديثة الى مفارقة مأساوية في تقدمنا، من خلال تسخيرها بحجة مواكبة العصر لبث تيارات الأخرين وقيمهم من غير حساب، والتعامل معها كأداة لتسويق منتجات الأخرين الثقافية والاعلامية بصرف النظر عن طبيعة هذه المواد ومضامينها.
إن حماية الثقافة تتطلب:
1- وعينا في فهم أثار التيارات المستوردة في ظل غياب أو ضعف أو هزيمة ما يقابلها محلياً.
2- الاتفاق على ان الحرية مسألة حيوية ووسيلة مهمة لتماسك اللحمة الثقافية وغيابها يضعف صدقية موقفنا الثقافي، ويحرض جمهورنا على الشك في ثقافته ورموزها.
3- الاتفاق على ان مبدأ الرفض بالجملة ومن غير حوار وشفافية واقناع لم يعد ممكناً في ظل انهيار جدار العزلة بين البشر وتعاظم وسائل الاتصال.
4- الكف عن مواجهة عجزنا أمام تيارات الأخرين وأفكارهم بالانغلاق والقمع والرفض بحجة المحافظة على القيم والعادات والتقاليد تارة، وبشعارات الغيرة والوطنية تارة أخرى.
5- إن حماية الثقافة الوطنية أو بالأحرى الجيد لا ينبغي ان تتحول الى شعار سياسي ووسيلة للتحريض ضد الحكومات وتخوين النخب وتحقيق المكاسب السياسية والحزبية لأنها قضية وجود أمة بكاملها، والتصدي لها ليس منوطاً بمؤسسة أو حكومة أو جماعة بعينها، ولكنه مهمة المجتمع بكل أطيافه ومؤسساته وأفراده.
6- إن غياب مؤسسات المجتمع المدني المستقلة يلغي دور الشعوب في هذه القضية الحيوية، ويضعف موقف الأنظمة في مواجهة المشكلة.
الأكيد ان دور الاعلام الجماهيري تعاظم في السنوات القليلة الماضية، وفي الدراسات الأمريكية ما يشير الى ان الاعلام الجماهيري بكل وسائله هو الأداة الأهم في نقل وانتشار التيارات الثقافية، وانه حل محل المدرسة والكنيسة، والعائلة في التأثير في الناس وتلقينهم حتى أنماط السلوك، فضلا عن القيم التي تسند هذا السلوك أو تسوغه، وإذا كانت خطورة الاعلام في تشكيل قيم وسلوك الناس أصبحت قضية للبحث.
في أمريكا برغم ان التلفزيون ينتمي لثقافة منتصرة ولا يعطي مساحة تذكر لتيارات الأخرين وثقافاتهم، فكيف هو حالنا وتلفزيوناتنا تقتات على مواد الأخرين وأفكارهم، وتعتمد واحداً من موقفين كما يقول الدكتور فتكور سحاب:
فأما القول بأن الجمهور يعلم أكثر مما نظن، واننا يجب ألا ندعي اعلام الناس، وفي الموقف تواضع كاذب يعفينا في النتيجة عن القيام بما يجب.
أو القول بأن الناس عامة جهلة، وعلى الاعلام ان يجاريهم ويساير فهمهم وفي هذا تعال مقنع على الجمهور. وفي الحالتين ما يريح العاجزين. لكن مهما كانت هذه الآراء شائعة في صفوفنا نحن الاعلاميين وربما مريحة لنا، فهي آراء خاطئة في أحسن الأحوال، وهدامة في أسوئها.
ان استقلالنا السياسي يبقى ناقصاً بالنظر لاستقلالنا الاقتصادي والثقافي، ولابد ان ندرك ان الحفاظ على وجودنا ومكونات ثقافتنا ومصالحنا الاقتصادية والتاريخية والحضارية تقتضي معاودة النظر في أوضاعنا الثقافية والاقتصادية، فضلا عن السياسية، وايجاد ايلاف جديد يجمع الثقافة بالاقتصاد، ويزيل سوء الفهم المفتعل بين الاثنين. فالثقافة التي لا يسندها المال والنفوذ الاقتصادي لا تعبر الحدود، لا بل تهزم في منابرها، وفي العالم العربي لم يتسن للشركات تطوير الثقافة لأسباب عديدة أهمها ان الثقافة لا تزال جزءاً من منظومة الادارة الحكومية، والأهم اختلاف المفاهيم بين المثقفين ورجال الأعمال الى حد الشك المتبادل. ويكفي للتدليل على هذه المشكلة مراجعة النصوص الأدبية والمقالات والأفلام والمسلسلات التلفزيونية لمعرفة صورة رجال الأعمال العرب في نظر المثقف والأديب والصحافي العربي، التي غالباً ما تختزل في صورة التاجر القبيح الذي يتسم بالجهل والجلافة، ولا يهمه سوى مصالحه الذاتية، فضلا عن انه كوَّن ثروته بالغش والتدليس وسرقة المواطنين، هذا إذا سلم من المتاجرة بالمخدرات أو الأغذية الفاسدة.
لا يوجد حل سحري للمحافظة على مكونات ثقافتنا الوطنية في مواجهة تيارات العولمة؟ لكن ثمة مفاهيم وأسس عامة تقود الى الحل لعل من أهمها:
ان حاجتنا الى الدفاع عن خصوصيتنا الثقافية، لا تقل عن حاجتنا الى التحديث ودخول عصر العلم والتقنية في شكل فاعل ومستقل.
ان الحفاظ على الهوية الثقافية مشروط بمدى عمق وجدية عملية التحديث والتغيير في أساليب تفكيرنا.
إن الثقافة المنغلقة المتيمة بالوقف على باب سد الذرائع، والمفتقرة الى الحرية في داخلها سيصعب عليها المواجهة أو الحوار، فضلاً عن التأثير في عالم تسوده حرية المشاركة السياسية، وحرية التعبير والاختلاف وحرية الخيال والاختيار.
|