قبل شهر .. نشر في الصحف تحت مانشيتات عريضة عن تغيب كافة رجال الأعمال السبعمائة الذين تمت دعوتهم إلى اجتماع في الرياض.. لعرض فرص رعاية نشاطات حملة التوعية المرورية للعام الحالي.. وأبدى ممثل الأمن العام استغرابه من هذا الغياب التام.. خصوصا وانه تم وضع حد دعائي للراعين المموّلين، لكنه لم يجد تجاوباً.. رغم ان العمل وطني، وكان يفترض ان يساهم الراعون من هذا المنطلق وحده «انتهى»..هذا التصريح يوضح ان هذه هي التجربة الأولى لممثل الأمن العام في إدارة حملة توعوية توجه «الرأي العام» في قضية تمثل القاتل رقم واحد للمجتمع السعودي.
المتابعون لحملات التوعية المرورية يعلمون انها بدأت قبل أربعين عاماً.. وانها لم تحقق نجاحاً.. على الرغم من توافر تمويل هائل لها إبان فترة الطفرة الاقتصادية التي عاشتها بلادنا.. حتى وصلت ميزانية حملة أحد الأعوام 37 مليون ريال.. لم تستطع ان توقف النمو السنوي الهائل لنسبة الحوادث.. فالتقرير الإحصائي للمرور عام 1423هـ يفيد بوقوع أكثر من «220» ألف حادث.. وثمانية ملايين مخالفة، بزيادة قدرها «48%» عن العام الماضي!!.. أما نسبة الوفيات فقد زادت «5 ،6%» عن نسبة الوفيات في العام الماضي.
العاملون في قطاع الإعلان والإعلام والنشر قليلون.. وحيث انهم، بحكم المهنة «غالباً»، أشخاص اجتماعيون فهم يلتقون كثيراً.. ويحكون كثيراً.. وبحكم طبيعة العمل أيضا فهم يجيدون فن الحكي ويحبونه.. وحيث انهم قليلون كما أسلفت فهم يسمعون كل الأحداث والقصص التي مرت على كل واحد منهم تقريباً.
حدثني من أثق في حديثه.. انه في اجتماع دام حوالي «ساعة ونصف» خطط مع مسؤول حكومي كبير وكتب ورسم الحملة الإعلامية لقضية وطنية مهمة.
وباستخدام وسائل الإغراء والإلحاح.. تم تمويل الحملة من رعاة، لهم تعاملات حكومية.. وتم جمع أكثر من مليون ريال لخطة إعلامية أملاها مسؤول الجهة في ساعة ونصف.. وكانت الفائدة الوحيدة العائدة على تلك الجهة هي مكنة تصوير أبيض وأسود، وبعض المستهلكات والمطبوعات.. أما العائد على المجتمع والراعي الممول فقد كان صفراً.
لا أريد ان أحول هذه المقالة إلى جلد للذات ولوم الآخرين، لكن حتى يكون لحملات توجيه الرأي العام تأثير.. لا بد ان يكون هناك اهتمام متخصص وان تكون هناك جهة متخصصة تملك الأفكار وتطرح الاقتراحات وتشرف على تطبيقها وتنفيذها.
الحملة التوعوية تقوم على ساقين.. هما: الخطة الصحيحة والتمويل الكافي لتنفيذ تلك الخطة.. ومن المؤسف ان سبب إخفاق كل حملات التوعية دون مبالغة.. ليس ضعف التمويل بل ضعف الخطة.
حملة التوعية الناجحة هي التي تعالج الاتجاهات والمواقف لدى الشرائح المستهدفة بتعزيز الإيجابي والحد من السلبي.. أي توقظهم وتدير رؤوسهم للنظر تجاه الأمور بشكل آخر مختلف.. وبأسلوب مقنع للعقل ومطمئن للعواطف.. ويؤدي إلى تثبيت عادة حتى تتحول إلى نظام حياة.
أكثر من أربعين سنة مرت منذ ان بدأت حملات التوعية المرورية السنوية.. ومع هذا يعلم الجميع انها لم تحقق شيئاً.. ووصلت ميزانيتها في يوم من الأيام إلى سبعة وثلاثين مليون ريال ولم تحقق شيئاً.. وميزانيتها الآن أقل من ستة ملايين ريال.. فهل نتوقع ان تحقق شيئاً؟.
لقد كان على ممثل الأمن العام أن يتساءل ويبحث عن إجابة.. لماذا غاب رجال الأعمال لا أن يستغرب من غيابهم.. وكان عليه ان يتساءل بلسان المموّلين.. فالرعاة المموّلون يقولون: إننا لم نمتنع عن رعاية وتمويل حملات التوعية المرورية بسبب قلة وطنيتنا بل لأننا لم نر نتائج.. ليس ذلك وحسب بل ان المقابل الإعلاني الذي يفترض ان نحصل عليه لا يتحقق غالباً.. ولا توجد جهة يمكن ان نشتكي إليها.. إضافة إلى انه لا توجد معايير علمية لهذه الحملات ومقاييس منطقية تظهر نتائجها على الملأ ليتم الحكم عليها.
الحملة الوطنية الأمنية الشاملة ليست حملة مرور وحسب، بل هي أكثر من ذلك.. لكن هناك من يتساءل: لماذا لم تصل تلك الرسائل الإعلامية إلى عقل المتلقي والتأثير فيه خلال كل تلك السنين؟.. هل السبب هو فشل الرسالة الإعلامية.. أو فشل أسلوب توجيهها.. أو ان ثمة غريزة انتحارية يعاني منها مجتمعنا.
العملية التوعوية إذا لم تنجح في تغيير التصورات الذهنية للمتلقي تجاه القضية.. تكون بالنسبة له عملية إخبارية عن الغير.. كما تكون موجهة للغير وليست له.. فالآخرون هم الذين تحصل لهم الحوادث وكأننا غير معنيين.. وهذه غريزة إنسانية رغم علمنا بها إلا أننا لا نتعامل معها.. فالمدخن يعلم ان التدخين ضار لكنه يدخن.. ومتعاطي المخدرات يعلم ان تعاطيها ضار لكنه يتعاطاها.. والسرعة تقود إلى الموت ومع هذا نسرع.. لماذا؟.. إنها تلك الغريزة التي تجعلنا نحن البشر أكثر هدوءاً وتفاؤلاً.. تلك الغريزة التي تستدني الخير وتستبعد الشر.
|