منذ أكثر من عقدين كنت في مهمة عمل إلى إحدى القرى، وقد اعتدت أن أذهب كل يوم إلى مطعم القرية، وهو مطعم تجاوزاً، ففيه بقالة ومخبز ومقهى، وكل التخصصات أو الخدمات تقع في حوش بدائي وقد ركزت نظري في إحدى المرات على كرتون في الواجهة تماماً معبأ بزجاجات الكلونيا وقد لاحظت خلال ترددي على المخبز أن الكرتون الذي رأيته بالأمس مليئاً أصبح في اليوم التالي فارغاً، وقد استبعدت أن هذه القرية النائية وصل بأهلها الرقي للحد الذي يستهلكون معه كرتونة كاملة من الكلونيا، التي اعتدنا استخدامها للحلاقة، وتطهير البشرة بعد وجبات الطعام أو الولائم الدسمة..!
وقد نقلت هواجسي لزميل من نفس القرية، فضحك الرجل حتى استلقى على قفاه ثم قال: لقد اكتشفت يا فلان أنك أنت القروي وليس نحن؟ هذه القوارير التي لاحظت نفادها من البقالة تنفد في كافة البقالات الموجودة في القرية والقرى المجاورة وهي تستخدم في أي شيء إلا ما قلته فلا أحد يستخدمها هنا للحلاقة أو تطهير اليدين ولكن لها استخدام آخر يعتقد من يقدم عليه انه ينسيه همومه ومشاكله، ومن يقبلون عليها من كافة الأعمار فالقرى ليست مستثناة من الهامشيين والغائبين!
وبعد خروجي من القرية سمعت عن العديد من المآسي، التي تسببت فيها هذه الزجاجة التي أصبحت ماركة مسجلة لكل من يبحث عن وسيلة تجعله يغيب عن واقعه، حتى ولو أدت إلى العمى أو التسمم وتفتيت الجسم.. وآخر مآسي «الكلونيا» ما نشر عن تسببها في تسمم (12) شخصاً توفي منهم أربعة أشخاص وقد قامت شرطة المنطقة التي وقعت فيها حادثة التسمم بتعقب مجموعة من الباعة المتجولين الذين يبيعون هذه الكلونيا والسؤال الذي يطرح نفسه بهذه المناسبة، هل لو تناول هؤلاء الضائعون، كلونيا غير منتهية الصلاحية سوف يعيشون أصحاء وغير فاقدي الرشد؟ إن كافة العطور أو المطهرات بها نسبة كبيرة من الكحول التي وضعت بقصد التطهير لكن هذه العطور عندما تشرب سوف يكون مفعولها مدمراً وهي تؤدي إلى اصابة متعاطيها بالعديد من الأمراض أبرزها العمى والهبوط في الدورة الدموية، والحالات في هذا الصدد معروفة، لمن يقرأ الصحف ويتابع الأخبار الطبية؟ أما كونها منتهية الصلاحية أو غير منتهية الصلاحية فلا يغير من الأمر شيئاً فلا يمكن مثلاً مصادرة العطور من البقالات ومحلات العطور التي تعرض أشكالاً وألواناً غير العديد من الاصباغ والسوائل التي تؤدي إلى نفس المفعول أو التأثير اللذين يلجأ إليهما للأسف كل ضائع بقصد تجاوز ضياعه أو بطالته!
إن تعاطي المخدرات والكحول بكافة أشكالها بات ملموسا في السنوات الأخيرة ولا يجب أن نقلل من هذه المشكلة خاصة وأن القضاء عليها يكاد يكون في حكم المستحيل لكننا بحاجة فعلاً إلى بث وعي، واضح وصريح بأضرارها مثلما نفعل مع التدخين وبالذات عندما نعلم أننا لن نستطيع الاستغناء عن زجاجات الكلونيا لتطهير أيدينا ووجوهنا بعد الحلاقة.. إنها كالسكين مفيدة ومميتة.. والمطلوب أن نشرح للناس لماذا هي مميتة هل لأنها رخيصة أم لأنها تحوي كمية زائدة من الكحول، أم لأنها منتهية الصلاحية!!
فاكس: 4533173
|