وليست الخطورة في الاطلاقات الطائشة، ولا في الاجترار الأبله للقيل والقال وكثرة السؤال، وإنما هي في تقبل الشارع العربي للمغالطات، وتأثره بالشائعات، وخنوعه وخضوعه للعابثين بذاكرته. وقد تكون الخطورة في لزومه للصمت مغلباً جانب السلامة بالجنوح إلى اللامبالاة باسم الحياد الإيجابي، وكأن الأمر لايعنيه. وسكوته نوع من أنواع السكوت عن الحق، وفي الحديث: - (الساكت عن الحق شيطان أخرس). والأمَرُّ والأنكى أن تلتزم المؤسسات العربية الرسمية الحياد السلبي أمام المقترفات القولية والفعلية، أو أن يكون موقفها متخاذلاً مقموعاً. والعبث بسمعة الأمة ومقدراتها طوال الخمسين سنة الماضية، ووضعها بين الحين والآخر في مواقف حرجة أمام الرأي العام العالمي، كل ذلك يطال سيئه المستهمين على سفينة الحياة، ولا يقتصر أذاه على طرف واحد، وذلك شأن الفتن فيمن تصيب، واستعداء الدول الباغية أو مواطأتها يعيد قصة المثل: - (أكلت يوم أكل الثور الأبيض).
والأمة في ظل هذه الترديات ملزمة بمواجهة قدرها، مجتمعة لا متفرقة، مكاشفة نفسها، متعظة لا شامتة، متخلية عن الحلول التسكينية، متحامية القفزات البهلوانية. فما تراكم عبر عشرات السنين لا يمكن حسمه بجرة قلم، وفي ظل هذه الظروف لابد من عقلنة التصرف ومرحلة الحلول، والنظر إلى الفساد المتعدد: السياسي والإداري والاقتصادي.
إن المسكنات الإرجائية لا تقيل عثرة، ولا تصحح مساراً، ولا تنهي تدهوراً، وعلى الدول العربية المسؤولة أمام الرأي العام العربي، والتي تملك أعماقاً متعددة أن تكاشف الشارع العربي، فالوضع لايتطلب مزيداً من المجاملات، وإن كان من الخير نسيان الماضي، واستئناف حياة جديدة، ولكن بعد أن يعرف المقترفون ما اقترفوا. الواقع العربي يتطلب هزة عنيفة، تهمش الضعفاء، وتعرفهم قدرهم، وتوقظ النائمين، وتذهب الغشاوة عن العيون، وتزيل الوقر عن الآذان. وألم ساعة يحسم الشر خير من تخدير عام يبقي عليه. ومواجهة الخطاب الإعلامي المسف، سواء صدر من مأجورين أو مناوئين أو موتورين بمثل تعدياته مجاراة في الخلق الدنيء. وإذا كان الله لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم فإنه حرض على العفو والصفح، ومن ثم فإن التحرف لمواجهة حضارية أفضل من المهاترات والتنابز بالألقاب.
والراصدون لمغامرات القنوات يدركون أنها تخلط عملاً صالحاً وآخر سيئا، وأن تنقية الأجواء وعودة الأمور إلى مجاريها في ظل هذه الظروف رقم على اليمّ، ولم يبق إلا اتخاذ موقف حضاري، ينتشل الخطاب الإعلامي من دركات الاسفاف إلى درجات القول الكريم. ولقد تذكرت وأنا أتعقب تلك المقولات المسفَّة ما جاء في صحيح البخاري قال: -(قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه «الحر بن قيس» وكان من النفر الذين يدنيهم «عمر»، وكان القراء أصحاب مجالس «عمر» ومشاورته، كهولاً كانوا أو شباناً. فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن (الحر) (لعيينة) فأذن له (عمر) فلما دخل عليه، قال: هَيْ يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب «عمر» حتى هم أن يوقع به، فقال له «الحر»: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : {(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) } وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها «عمر» حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله)- أ،هـ بنصه-، ولست أشك، بأن كل من تعقب أحداث الأمة وما يشاع عنها وما يفترى على قادتها ومفكريها وعلمائها ومصلحيها يرى نفسه أمام عشرات لايختلفون عن (عيينة بن حصن)، وان بعض المواقف تضطر المتأذي تمثل أمر الله لرسوله: { (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) } غير أن اتهامات البعض بلغت أفئدة خالية، وآذاناً صاغية، وتلقفها شرار الخلق من صهاينة ومتصهينين، في زمن التصعيد الحاد للحرب الباردة ضد قيم الأمة، وواجبنا حين يبدهنا الاتهام الجائر أن نمر باللغو مر الكرام في طريقنا إلى المتلقي، وعلى المتأذي ظلما وبهتاناً أن يسبق الأفاكين إلى الرأي العام، ليحمله على استيفاء شروط التلقي من تثبت وإثبات وبرهان، وليس أقل من ذلك. ومما يؤذي صاحب الحق المغموط أنه قد يتكلم بحضرة شر الدواب، وشرها عند الله الصم البكم الذين لايعقلون.
ومغامرات المناوئين الكلامية ليست بأغرب من مغامراتهم العملية التي أرهقت الأمة وأذلتها، وشواهد المجازفات ماثلة للعيان، وعلى المتردد أن يتابع المكاشفات والحوارات والاعترافات والمواجهات القنواتية مع الضالعين في الشأن العربي، ممن زلت بهم الأقدام. على أن واقع الأمة خير شاهد: مجاعات ومطاردات وهوان واختلافات وضعف وتخلف واحتلال واستيطان. ولن نستعيد المغامرات العسكرية والتدخلات السافرة في الخصوصيات، وما آلت إليه، وما ألحقته بالإنسان العربي من أضرار فادحة، أسقطت هيبة الأمة، وشوهت سمعة العربي. وما يطلقه البعض من مفتريات وفرضيات تذكرنا بفرضيات الكاتب الفرنسي (تيري ميان) صاحب كتاب (الخديعة الكبرى) الذي حقق من وراء فرضياته مكاسب مادية لاتقدر، حيث اتهم أمريكا بعملية الحادي عشر من سبتمبر، وجعل (ابن لادن) عميلاً أمريكياً، ومع أن السياسة تعني: فن الممكن، واللعب السياسية تستوعب ما هو أكبر وأغرب، إلا أن الفرضيات تحتاج إلى أدنى حد من المعقولية، ولو قال بأن (ابن لادن) عميل غرد خارج السرب، لكان قاب قوسين أو أدنى من الحقيقة.
والإعلام العربي الذي يدفع بؤسه بإذكاء الضغائن ونبش الدفائن، لم يمتعض مرة واحدة من المسرعين ابتغاء الفتنة، وذلك لعمري مكمن الارتياب. واتهام الموقعين عن رب العالمين بصناعة الإرهاب وتصديره امتداد لما أثر عن خصوم الدعوة من نفعيين وطائفيين. والاختلاف مع (الحركة الإصلاحية) مشروع، والتوقف أو التحفظ ممكن، متى توخى المختصمون الحق، وتخلصوا من الافتراءات والاطلاقات العامة. والخلاف المعمم والتحامل الجائر قديمان قدم الدعوات، وما لقبه المصلحون كافة بعض ما لقيه الأنبياء والرسل، والدعوة الإصلاحية ووجهت من الإمارات الإقليمية والزعامات القبلية ومن علماء الطوائف المخالفة لمنهج السلف ومن العلماء المستنفعين من الأوضاع المتردية: ديناً ودنيا. وشطر من هذا التحامل رعاه صراع المصالح و(الاستراتيجيات) الدولية. وبالجملة فهو خلاف متعدد الأسباب، تذكيه المصالح الاستعمارية والخلافات المذهبية والتناحر الطائفي، هذا الركام التقطه البعض ليجعل منه خلافاً عقدياً، تخالف فيه الدعوة منهج السلف، وكان من المفترض ان يتحول إلى مرحلة تاريخية، يستحضر للموعظة والذكرى، ولقد اعتورت الدعوة والداعية أقلام المفكرين والطائفيين والمستشرقين، أنصفها من أنصفها، وتحامل عليها من تحامل، ولما تزل مجالاً للأخذ والرد، وأهلها أحق بالدفاع عنها وحجتهم الدامغة أن تراث الداعية لاينفرد بحكم في الفروع أو الأصول.
وأذكر ذات مرة -وعلى سبيل المثال- أنني كنت في زيارة لصديق في بلد شقيق، وكنت قاب قوسين أو أدنى من لقاء مفتوح مع طلبة إحدى الجامعات العربية، فقال لي: -إياك إياك أن تذكر كلمة (وهابية) فهي الأبشع على مسامع البعض، وبخاصة الطائفيين منهم، قلت: -لقد جئت لتصحيح المفاهيم، ولم آت لتكرير المعلومات وتملق الجماهير. قال: خذها نصيحة من خبير. وشكرته، ومضيت. وما أن صعدت المنبر حتى قلت: -جئت إليكم من أرض المقدسات، ومهوى الأفئدة، من (أم القرى) مهبط الوحي، ومن (طيبة الطيبة) مرقد الجسد الطاهر، ومن سهول (نجد) مدرج الشعراء الجاهليين والإسلاميين، ومصدر الفصاحة، وعرين العروبة، ومسرح حملة الرسالة المحمدية البيضاء، الإقليم الذي شهد الفتن العمياء، والحروب الشرسة، والجفاف والتصحر والقبلية، حتى أنقذه الله (بالمحمدين) محمد بن سعود، ومحمد بن عبدالوهاب، حيث جددا أمر الدين، ووحدا شتات السياسة، وأردفت: أعرف أن بعضكم متحفظ على كلمة (وهابية) وهي كلمة أطلقها المناوئون، وصدقها الطيبون، فما سمى المصلح نفسه وهابياً، وما سماه أنصاره، وما حمل هم المذهبية، ولم يحدث في الدين ما لم يأذن به الله، وكل الذي فعله التصدي للمحدثات، وبخاصة ما يمس جناب التوحيد، فهو (حنبلي) في الفروع (سلفي) في الأصول، وسطي في التعامل، والبعض منكم يرى (الوهابية) مذهباً خامساً، فسقت عن أمر ربها، ولكن دعوتي أفاتحكم بدعوة الرسل: {تّعّالّوًا إلّى" كّلٌمّةُ سّوّاءُ} وبأمر الله {فّإن تّنّازّعًتٍمً فٌي شّيًءُ فّرٍدٍَوهٍ إلّى اللّهٌ وّالرَّسٍولٌ} رجل تعلم في نجد، وتربى فيها، ورحل في طلب العلم، وتزود من علماء الآفاق، وجادلهم، ووقف على جهل قومه، وفرقتهم، واستفحال الخرافة فيهم، فكان أن جاء إلى أوزاع من القبائل، وأشتات من الأقاليم، يغمرهم الجهل، وتضلهم الخرافات، وتحصدهم الفتن، وتقتلهم الأمراض، يأخذ القوي منهم الضعيف، لايجدون فرصة للعمل، ولا ساعة للتعلم، يعميهم التعصب، ويضلهم الهوى، يقتتلون على المراعي والموارد، ولا يتردد أحدهم من قتل صاحبه من أجل تمرة أو ثوب أو دابة، يدعون الأولياء، ويتوسلون بالرمم، يتطيرون بمن لقوا، وطائرهم معهم، ويعلقون التمائم، ويؤمنون بالخرافات، جاء إليهم بالكتاب وصحيح السنة، يحترم سلف الأمة، ويدين لعلمائها بالولاء والمحبة، يأخذ بمخرجات الاجتهاد والقياس والاجماع، ويقدم النص، ويستعين بقواعد الفقهاء، ويشيد بجهود علماء المذاهب في الفروع، يترحم على المحسنين، ويدعو للمسيئين، ولا يشهد لأحد من أهل القبلة بجنة ولا بنار، ولا يكفر أحداً منهم، ويكف عما بدر من الصحابة، يحبهم، ويترضى عنهم، والكفر عنده دركات، والإيمان درجات، والنفاق أنواع، وآيات الوعيد لها أحكامها، ومن ثم يمرها كما جاءت، والدعاء عنده مخ العبادة، استقى رؤيته الاصلاحية مما سلف من العلم والعلماء، وربط بين الدين والسياسة، بحيث لايرى الزعامات القبلية أو الإقليمية أو الطائفية، وقدوته (ابن تيمية) الذي لم يقطع بتكفير الثلاث والسبعين فرقة. وما ان فُتح بابُ الحوار، قال أحد الحضور: وماذا تقول بكلام العلماء والمفكرين عن الوهابي؟ قلت: -المصلح قدم إلى ما قدم، ولا نزكيه على الله، وليس بين أيدينا إلا ما ترك من كتب، وما خلفه من علماء، وما دون عنه من تاريخ، ومرد الخلاف إلى مصدري الدين: الكتاب والسنة، فهات ما قال، لا ما قيل عنه، واعرضه على الكتاب وصحيح السنة، فما وافقهما لزمك اتباعه، وما خالفهما لزمنا اطراحه، ومن أخطأ من علماء الدعوة أو العامة في التطبيق، فذلك لايضاف إلى المبدأ، وهو رد على صاحبه، وخوض الحروب ما كان إلا للدفاع عن النفس أو المبدأ، والمصلح لم يشهر سلاحه إلا للدفاع عن النفس، والواجب أن تؤخذ الحركة في سياقاتها، قال: -وهل ندع قول علمائنا، ونأخذ بما تقول؟ قلت: - خذ بما أمرت بالأخذ به، فما جئت لأدين أحداً، وإنما جئت لأنقذ مظلوماً، وأنت محاسب على ما تفعل، وتذكر: {يّوًمّ تّأًتٌي كٍلٍَ نّفًسُ تٍجّادٌلٍ عّن نَّفًسٌهّا} وقد ألزمت الحجة، وبلغتك الرسالة، فهل أنت مع الحق أم مع الرجال، قال: -أنا مع الحق. قلت: -وهل الحق مع الرجال أم الرجال مع الحق. قال: -الرجال مع الحق، وأردف يقول: - وهل معك شيء من كتب الوهابي. قلت: -الحكم على الشيء فرع من تصوره، فإما أن تتصوره، وإما أن تكف عنه، حتى يتبين لك الحق. قال: -وقول علمائي الذين أثق بهم، قلت: -وهموا كما وهمت، وأضلهم الخلط بين الديني والسياسي، ومضوا دون ان يتثبتوا، أو يبصرهم أحد، والله سيحاسبهم على نياتهم، وعلى مبلغهم من العلم، وإن كان من واجبهم التثبت، وصحة التصور، وسؤال أهل الذكر، ورحمة الله وسعت كل شيء، أما أنت فقد قامت عليك الحجة، قبل ان أسمعك الحق أنت معذور، أما وقد وضح الصواب فإن عليك ان تقبل الحق. إن الدعوة الاصلاحية التي قام بها، الشيخ المصلح (محمد بن عبدالوهاب) دعوة سلفية ترد إلى الله والرسول. وما نسب إليها من حروب أهلية ينظر إليها من خلال سياقاتها التاريخية وظروفها الوقتية، لقد طرد من مسقط رأسه، ولُوحق في مسارح دعوته، وتدفقت الجيوش من البر والبحر لإجهاض دعوته، هدمت الدرعية واقتيد قادتها إلى السجون والقتل والإقامة الجبرية، وما أحد نظر إلى عذاباتهم، وما نقموا منه إلا أنه يسعى لتنقية العقيدة ووحدة الكلمة، وقوة السلطان، والقضاء على الإقليميات والقبليات والطائفيات والخرافات. والدولة القائمة لا تنفرد بعبادة، ولا تختص بنظام، دولة إسلامية تحترم القوانين والحقوق والأنظمة وتجنح للسلم، وتتقبل معطيات الحضارة والمدنية، لاتعتدي، ولا تغدر، ولا تنقض عهداً، ولا تقتل مستأمنا ولا ذمياً، ولا تفجر طائرة ولا مبنى، ولا تخفر ذمة، عقدت مع الدول الكبرى عقوداً ومواثيق وصفقات تجارية، فكانت الأوفى، وما تعيشه الأمة من إرهاب إن هو إلا من فلول اللعب الكونية، وهي كغيرها مسرح للعمليات وليست وكراً للتفريخ.
|