من منا لا يحب وطنه، ومَنْ منا لا يفخر بوطنه، وبمسقط رأسه، وميراث آبائه وأجداده، وأديبنا هذا كثيراً ما كان أنموذج الأدب في العصر الحديث، يرفع عقيرته بأعلام وعلماء وحارات وأزق مدينته فيناجي ليلها السكان ونهارها المتأجج.
علي الطنطاوي.. ذاك الشامخ الأشم، والنور النافذ على الأدب الجم، لن أكتب عنه غير ما سطرته أيدي الأدباء الفضلاء عنه، سوى أنني سأعيش والقارئ الكريم خاطرة في دقائق، ولو أنه تحت الثرى إلا أنه شاخص أمامنا بعلمه وأدبه وخلقه الكريم..
بدأت رحلتي إلى موطنه وكنت أظن أنني سأجد أحرفه معلقة على أعمدة الإنارة لتزين بها شوارع جيرون، وتستمدُ الأنوار الضياء منها.. وكتُبهُ مكتوبة على الجدران تزخرفها وتبهيها، كنت اعتقد أن حلق التعليم تنثر كتبه بالقراءة والتمحيص، والنهم من قنواته وبحاره،وخاصة القوم وعامتهم تدعو له بالرحمة، لأنه أثخن كتبه بمناقب دمشق وأهلها..
وعاطفة الوطن غالية وصادقة لا يعرفها إلا من أغرب او اغترب عنها، فالشيخ الطنطاوي الأديب الألمعي كان ممن يكثر الحنين الى وطنه، ولكنّ من يقرأ ما يكتبه عن دمشق وأهلها يرى دموعه هاطلة على وجنتيه، من الشغف الذي ملك قلبه إليها، وحق له ذلك.
لكن المفاجأة كانت أكبر من تصوري لها.. صرت أبحث عنه في كل زاوية من زوايا جُلَّق، استعلم عن طيفه وعن كتبه، عن دموعه وحبه، فدخلت مرة مكتبة سألت صاحبها عن كتب الشيخ، قال لي: ليس عندي إلا كتابين له، مع أن مؤلفاته بلغت عشرات الكتب وآلاف الصفحات، فقلت لعلها مكتبة حديثة لم يصل إليها بعد كتبه، فزادني ذلك إصرارا على تتبع طيفه العبق، دنوت من أم المكتبات هناك، وقرعت الباب باسم علي الطنطاوي، فسكن صاحبها هنيهة فقال: لا توجد لدينا هنا كتب له، فلم يكن بحثي عن كتبه عدا ان أرى مجد ذاك الرجل هل هو في أحضان أمه ووطنه حي لم يمت؟! وهو الذي حفد خلف المجد الأدبي، واسمه في اصقاع العالم يرن، وكتبه تترجم الى عشرات اللغات.
سألت العامة عنه فلم يعرفوا علي الطنطاوي، أما خاصتهم فقليل من قرأ له، إلا رجل أسن عندما تحدثنا طويلا عن الأدب تبين أنه أحد طلابه، حين سألته عنه، تنهد تنهيدة كادت تحرق صدره المهلهل، فأفصح لي في همس ان دمش لم تهتم بأبنها البار، في ينبوع شبابه، تحدثنا طويلاً عن شخصه وعلمه ونكته وطرائفه، الوطن كان عنده ساحة بارحة من أعطر الذكريات. ودوحة نضرة في سفوح المشاعر والأخلاق.. وإشراقاً لا مغيب من العلم الصحوة الفكرية، هنيئاً لتلك البلاد التي أفرزت هذا النموذج، وهنيئاً لبلادنا ان احتضنت هذا الجبل الأشم.
كان يقول دائماً: اذكروني وادعوا لي بالرحمة إن قرأتم لي..
رحمك الله يا علي الطنطاوي رحمة واسعة.
|